نظّم مركز دراسة الإسلام والدّيمقراطيّة بالتعاون مع الرابطة العربية للتربويين التنويريين ندوة بعنوان الفكر الإسلامي التنويري وتحديات العصر، يوم السبت 12 ماي 2018، بنزل النوفوتال بتونس العاصمة. أثّث اللقاء الذي أداره السيد محرز الادريسي رئيس مجلس إدارة الرابطة العربية للتربويين التنويريين، كلّ من السيد منير التليلي وزير الشؤون الدينية سابقا، السيد خالد شوكات رئيس المعهد العربي للديمقراطية بتونس، السيد محمد القوماني كاتب وأستاذ التفكير الإسلامي والسيد سليمان الشواشي أستاذ سابق بجامعة الزيتونة و عضو بالمجلس الإسلامي الأعلى.
بعد الكلمة الترحيبيّة بالحضور الكريم، أكّد السيد محرز الإدريسي على أنّ مسألة التنوير غير منفصلة عن المسار السياسي بشكل عامّ، وهو الذي يلقى جذوره وعمقه في التعبيرات التنويريّة التي تحتاجها كلّ المجتمعات العربيّة في ظلّ ما تشهده من تنامي للفكر المتطرّف. فما هو المضمون الّذي يمكن أن يقدّمه التنوير؟ وماهي خصوصيّة هذا الفكر المتجدّد وهل يقتصر الفكر التنويري على نوع من التجميليّة أم يستند إلى القيم والمفاهيم العصريّة؟ أم أنّ المسألة تأخذ أبعادا أكثر عمق وهي إيجاد مضامين ومحتويات لفكرة الحرية والمساواة والعدالة؟ علما وأنّ تونس هي إقليم القاعدة لحركة التنوير وروح الدّيمقراطيّة في العالم العربي.
أكّد السيد منير التليلي على ضرورة نشر فكر تنويري قادر على إستبعاد فهم ضيّق للنصّ الدّيني الّذي استُغلّ لا للبناء ولكن للهدم. اتّسمت محاولات النهوض الفكرية والحضاريّة بالتنوّع، و مثّلت تقديم إجابات عن تحدّيات العصر من أجل تقدّم الأمّة ونهضتها. وكان بروز المشاريع الإصلاحية الأولى في العصر الحديث المعاصر انطلاقا من النصف الثاني للقرن 19 على يد رفاع الطهطاوي مؤسس حركة النهضة بمصر وخير الدين التونسي رائد النهضة العلمية بتونس يهدف إلى إفراز مجتمع مدني شبيه بالمجتمعات الأوروبيّة، تفُكّ فيه الدّولة عن نفسها قيد الدّين دون التخلي عن الهويّة الإسلاميّة، بحيث يكون الإسلام في المجتمع عقيدة دينيّة. وفي مستوى آخر، برزت حركات التجديد التي قام بها كلّ من جمال الدّين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا الّذين سعوا إلى تصحيح الرؤية التقليديّة للدّين التي كرّست الجمود. وبالرغم من هذه المحاولات لبعث فكر تنويري إصلاحي في العالم العربي، إلّا أنّ العالم العربي لم يقدر بعد على إفراز منظومة فكرية متكاملة تحمل مشروعا واضح المعالم يقطع مع النُّظم السائدة. يقوم الفكر التنويري على حرية الفرد وينظر للإنسان باعتباره غاية الوجود وصاحب الإرادة والاختيار. لايركن الفكر التنويري إلى السائد ويؤمن بالاختلاف. كما يسعى إلى التصدّي إلى الأنظمة الاستبداديّة التي اعتمدت على النصوص الإسلاميّة لتجذير فكرها ونشره، مثل التأصيل لطاعة ولاة الأمور وتوجيه الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة، وهو ما أطلق عليها السيد منير التليلي “تقنيات الاستبداد”. واعتبره غير مستقيم مع مبادئ الشريعة التي ضمنت حقوق الإنسان وأسست للشورى وجعلت للعدل أعلى رتبة. وفي الأخير، أكّد على أنّ للاستبداد آثارا خطيرة على أصول وقواعد الشرع التي أصبحت تُستعمل في بقاء الظلم وليس إزالته. لذلك من الضروري التركيز على الأساليب السلمية في القضاء على الجور والتي تقلّل الخسائر وتحقق القسط دون رفع السلاح داخل حدود الدّولة.
أكّد السيد خالد شوكات على أنّ الحركة الإسلامية منقسمة بين سلفية شكلية وسلفية مضمونيّة، أي بين الخطّ التنويري الإسلامي والخطّ المتطرّف والمنغلق في رؤيته للإسلام. فالفكر التنويري يقوم على التأصيل والمعاصرة في نفس الوقت. في تونس، تواجدت حركة إصلاحية عريقة واجهت الفكر العامّ الّذي شهده العالم العربي والإسلامي من تراجع. وما حدث منذ الثورة إلى الآن هو نتاج لتراكم تاريخي لهذه الحركة الممتدّة على أكثر من قرنين. وهو ما يفسّر تميّزها كتجربة ناشئة في الدّيمقراطيّة. وأكّد على أنّ التونسيين يحملون أمانة الأجداد والآباء لخوض هذه التجربة ومواصلة الإصلاح والتجديد. فقد اصطدم عبد العزيز الثعالبي بالمجتمع سنة 1904 نتيجة آرائه التنويريّة والاصلاحية وقد خرج البعض مناديا بإعدامه جرّاء نزعته. كما اصطدم بالحاكم في أكثر من مناسبة لأنهّ يعتبر الحاكم مستبدّا وظالما كما طالب بالإصلاح السياسي وبدولة المؤسّسات والحكم القائم على تكريس مبدأ السيادة للشعب، إلى أن توفاه الله سنة 1944. وواصل مسيرته تلاميذه وأتباعه أمثال الطاهر الحداّد. وقد اقتدى كلّ المصلحين الّذين سبق ذكرهم بمحمد صلى الله عليه وسلّم وبدوره في التأثير على الإنسانيّة جمعاء. إنّ التجربة التي نخوضها اليوم سيكون لها تأثير في المجال العربي وهي تجربة المشروع الحضاري الدّيمقراطي الإسلامي الذي يحترم الحرية وحقوق الانسان والتداول على السلطة. ولكن يجب خوض هذه التجربة ليس من منطلق مُستَلَب وإنّما من منطلق متأصّل وأصيل مع التفاعل مع الحداثة الغربية ولكن بروح نقديّة ورغبة في إحداث قيمة مضافة. فحتى في الغرب نفسه توجد حركة تسمى بحركة ما بعد الحداثة توجّه أسئلة نقديّة عميقة للحداثة الغربيّة . لدى المسلمين إمكانيّة إحداث قيمة مضافة في موضوعين أساسيّين. أوّلهما، لدى المسلمين اختلاف عميق في موضوع الفردانيّة التي بُنيت على أساسها الحضارة الغربيّة مع إيماننا بدور الأسرة ومكانتها الأساسيّة في بناء المجتمعات الحديثة المعاصرة. فدسترة دور العائلة في دستور 2014 جاء نتيجة لهذا المنطلق المعرفي والفكري والفلسفي. ثانيها، المسألة الروحانية والعرفانية في مقابل المفهوم المادّي لحركة التاريخ. فالشّطط الذ ي صارت إليه الحداثة الغربية فيما يتعلّق بنزعتها الماديّة والالحاديّة يحتاج إلى مراجعة. اتباع المدرسة الوسطيّة للممارسة الروحيّة والعرفانيّة هي سرّ من أسرار السعادة الفرديّة والمجتمعيّة حيث لا يمكن للإنسان تحقيق توازنه دون هذا الخطّ الإيماني الّذي لا يجب أن يكون له انعكاس سلبي على ديمقراطيّة الدّولة ومنظومات الحريات وحقوق الانسان التي لها تأصيل في الفكر الإسلامي.
أشار السيد محمد القوماني إلى أنّ موضوع الفكر الإسلامي التنويري يبدو في ظاهره تقليدي إلّا أنّه موضوع ساخن يفجّر قضايا ومسائل عديدة. فالهدف من اللقاء اليوم هو إنارة جوانب عدّة للفكر التنويري. أوّلا، ماذا نعني بالتنوير؟ أكّد السيد القوماني على أنّه لا يمكن فصل مصطلح التنوير عن عصر الأنوار الّذي أتت به الحداثة الغربيّة. فقد عرّف كانط الأنوار بأنّه خروج الانسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو العجز عن استخدام الفكر خارج قيادة الآخرين. يقول السيد القوماني أنّ التنوير بعني التفكير خارج وصاية الآخرين وهو ما يتماشى مع روح الوحي الذي أُنزل على محمد بن عبد الله. وهو ما أشار إليه محمد إقبال في تجديد الفكر الدّيني في الإسلام من دور الوحي في تأهيل عقل الانسان وانضاجه عبر التاريخ. ثانيا، كيف يكون الفكر الإسلامي مستنيرا أو تنويريّا؟ نوّه السيد القوماني بأنّ فكر الإنسان يصبح تنويريا بقدر ما يتحرّر من الوصاية مهما كانت. وبما أنّ الفكر الإسلامي يعتمد على النصوص التأسيسيّة من القرآن والسنة وعلى الموروث بصفة عامّة. فإنّ أكبر وصاية تمارس على فكر المسلم هي وصاية التراث والماضي والقدماء الّتي يجب التخلص منها في حال اصطدمت مع الحاضر. ثالثا، ما هي أولويات الفكر الإسلامي التنويري في مواجهة تحدّيات العصر؟ شدّد السيد القوماني على أنّه لم يعد فكر الاجتهاد كاف لمواجهة الموروث القديم، لذلك يجب أن يُراجع. فالمواطنة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان يجب التعامل معها بانتماءات وأفكار جديدة لاكتساب معركة المساواة بين البشر. كما يجب على العالم الإسلامي الارتقاء الفكري ليكون جزء من العصر وذلك عن طريق اكتساب آليات ، تقنيات ولغة العصر.
نوّه السيد سليمان الشواشي بضرورة إحياء القيم الإسلامية والفكر الإسلامي المستنير. فالرسالة الإسلامية لم تأت صدفة وإنّما جاءت لتحرير الشعوب من الظّلاميّة ونقلها من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد. أعلنت الرسالة أنّ هدفها هداية الناس وإرشادهم إلى مناهج الخير والسعادة. فالدعوة الإسلامية دعوة إلى الإيمان بقيم روحية ماورائيّة كالتوحيد والبعث والجزاء وقيم خُلقيّة فاضلة كالرحمة والإحسان وأداء الأمانة وصدق الحديث وقيم انسانيّة كالحرية والعدل والمساواة. وذلك في إطار ابتغاء ضبط قوى التاريخ وتوجيهها على نحو ينشئ عالما من المُثُل العُليا. وهو ما جعل الناس يدخلون في هذا الدّين أفواجا. إلّا أنّ المجتمعات الإسلامية أُصيبت بعد الفتح الإسلامي باغتراب الحقيقة ممّا أدّى إلى فقدان الحضارة الإسلاميّة للطّاقة التي تدفعها إلى الأمام. حيث تحوّلت المرجعيّة القيمية الإسلاميّة في عصر الانحطاط إلى أشياء لا قيمة لها. وظهر الاستبداد والحكم المطلق المُستند إلى تأصيل شرعي و دمّر الدّين والروح والخُلق وحوّل الفرد إلى شخصيّة تافهة تطحنها مشاعر الدّونيّة والعجز تائهة في عالم الضّياع. وهو ما ولّد ظاهر الإرهاب نتيجة جعل الدّين على هامش الهامش. وبالتالي صار لزاما على المسلمين إحياء القيم الإسلامية الروحيّة الماورائيّة فضلا عن القيم الروحيّة والإنسانيّة ولا سيما بعد قيام الثورات العربية وإطاحة الأنظمة الاستبدادية. ومثال ذلك إحياء عقيدة التوحيد والتحرر من عبادة الأصنام والسلطان والمال ليكون الانسان مستقلا بذاته من أجل تحقيق الكمال للنوع الإنساني. إلّا أنّ المسلمين اختلفوا في إيجاد المنهج المعرفي لتحقيق عقيدة التوحيد وهو ما عبّر عنها السيد سليمان الشواشي “بمعضلة الاختلاف في المذهب الإسلامي في المعرفة”.
خلال النّقاش، أكّد الإعلامي طاهر الشّافع مدير مكتب وكالة الأنباء الفلسطينيّة بتونس على ضرورة تقديم حلول لتحدّيات العصر إلى جانب تسليط الضّوء على الفكر الإسلامي التنويري بالإضافة إلى تحديد الآليات التي يجب وضعها حتى يتحدّى الفكر الإسلامي التنويري مشاكل العصر كالإرهاب، غياب دور الأسرة، تدنّي نوعية التعليم في المدارس وتحقيق الحوار الآمن مع الآخر. كما شدّد العديد من المتدخّلين على أهمّية دور العقل الإنساني في الارتقاء في حال تحرّر من مختلف القيود التي تكبّله كعبادة المال والنفس والسلطان. أشار أحد المتدخّلين إلى وجود الدّولة المدنية في المخيّل الإسلامي التي أسّسها رسول الله والتي تقوم على العدل واحترام حقوق الأقليات وهو ما سيسهّل على كلّ مجتمع إسلامي القيام بتجربته على المستوى القُطري فيما يتعلّق بمواجهة تحديات العصر في مجتمعه. كما أكّد الأخصائي في علم النفس أحمد الأبيض على ضرورة وجود فكر إسلامي تنويري قادر على التصدّي إلى المخطّط الغربي في تشويه الإسلام واستعمال المسلمين غير الواعين في تشويه الإسلام مثلما تمّ تشويه الشيوعيّة. ونوّه الدّكتور في علم الاجتماع محمود الذوّادي بضرورة نقد الفكر الغربي الّذي يشوبه العديد من الزلات من قبل المسلمين الّذين مع الأسف يسعون دائما إلى تمجيده.
خلال التّفاعل، أشار السيد منير التليلي إلى أنّ قضيّة الاستبداد طوّقت المسلمين وكبّل فكرهم لعقود عديدة ممّا شوّه التراث الإسلامي الذي يحتاج إلى إعادة النظر فيه وإعادة غربلته. نوّه السيد خالد شوكات بأنّه ضدّ التعريف الحركي للفكر الإسلامي. وأكّد على أنّه من واجب المسلمين السعي دائما إلى الإضافة والإنتاج في التاريخ والمعرفة الإنسانيّة. ودعا السيد محمد القوماني إلى اتباع طريق التجديد والإصلاح لمواجهة مشاكل العصر، معتبرا أنّ تيار الهويّة كسب المعركة ضدّ الاستعمار والتغريب كما أصبح المفكرون العرب مقتنعين بأهميّة الرافد التاريخي في كسب معارك العصر والحداثة. وختم بأنّ القرآن هو رسالة لتنوير العقول من خلال الأسلوب اللغوي “يسألونك”. أكّد السيد سليمان الشواشي على أنّ الاستبداد هو علّة العلل وهو أصل جميع المصائب ولهو ارتباط كبير في تدمير القيم الدّينيّة. فهو السبب الرئيسي في ارتماء الشباب في قوارب الموت أو الانحراف أو الانخراط فب الجماعات الإرهابيّة. وضرب مثالا بالقرامطة الّذين قتلوا الحجاج ورموهم في بئر زمزم نتيجة الاستبداد وانسداد الأبواب والآفاق.