افتتح الدكتور رضوان المصمودي رئيس مركز دراسة الإسلام والديمقراطية الندوة بكلمة اعتبر فيها أن السبب الرئيسي في انهيار أو شبه انهيار المنظومة القيمية والأخلاقية في تونس إنما يعود لضعف الشأن الديني الذي تمّ إضعافه منذ الفترة البورقيبية وكامل فترة رئاسة زين العابدين بن علي، والذي صار غير قادر على التطور والاستجابة لحاجيات العصر والمجتمع التونسي وخاصة الشباب. واعتبر الدكتور أنّ تقوية هذا الدور ليس من مسؤوليات وزارة الشؤون الدينية فحسب وإنما يشاركها فيه المجتمع المدني والعلماء وكل المهتمين بالشأن الديني في تونس. ثمّ بيّن السيد المحاضر أنّ اللبنة الأولى التي يجب التركيز عليها في ذلك هي الأطر المسجدية، ذلك أن تونس تضم أكثر من 5000 مسجد تقام فيه الصلوات الخمس في كلّ يوم، وتقام فيها صلاة الجمعة في كلّ أسبوع، وأنّه لو افترضنا حضور 500 مصلي في كل جمعة على أقل تقدير لتجاوز عدد الحضور أسبوعيا 2 مليون شخص، ممّا يبرز قيمة وأهمية هذه المدرسة. فلو وقعت العناية بها كما يجب لتمكنّا من بناء مجتمع متطور ومتماسك ومتوازن ومتصالح، ليس فقط مع قيم الإسلام وقيم الدين، ولكن أيضا مع قيم العصر والحداثة وحقوق الإنسان والديمقراطية.
وطبعا داخل في ذلك نبذ العنف والتسامح ونبذ التطرف، وهي من القيم التي يحتاجها الشعب عامّة وخاصة الشباب اليوم في تونس، ودور الإمام وبالأخص الإمام الخطيب هو دور رئيسي ومركزي، يجب أن لا يكتفي بإلقاء خطبة الجمعة وإنما يجب عليه كذلك أن يقوم بدور المرشد الروحي للمجتمع للمتساكنين وللشباب خاصة وأن يقترب من الناس ليفهم مشاكلهم وحاجياتهم ويساعد على تقديم الحلول والنصيحة والتوجيه والإرشاد الديني، وهذا يتطلب من الإمام ليس فقط أن يكون ملمّا بعلوم الدّين ولكن أيضا بعلوم العصر مثل الاقتصاد والاجتماع وعلم النفس والكثير من العلوم الأخرى وأيضا المهارات مثل مهارة الخطابة والاستماع والإنصات والتواصل وحل النزاعات وغيرها من المهارات التي يحتاجها الإمام لكي يتواصل مع المجتمع وخاصة مع الشباب. وضمن نفس هذا السياق أشار الدكتور إلى الجهد المبذول من المركز منذ خمس سنوات في تكوين الأئمة وتدريبهم على جملة من المهارات كالخطابة والتواصل الاجتماعي. قام المركز بطبع عديد القصاصات والنشريات والمطويات في الغرض، وقام بعديد الندوات واللقاءات. لكن يظل كل هذا الجهد قاصرا ما دام لم يتجاوز حوالي 10 أو 15 بالمائة من عدد الأئمة في تونس، بما يعني ضرورة تظافر الجهود من أجل مواصلة هذا الجهد وتحقيق الأهداف المرسومة من ورائه. ثم قام بتقديم السادة الضيوف المحاضرين وهم من الشخصيات المهتمة بواقع الشأن الدّين في تونس.
ثم أحيلت الكلمة إلى السيد منير التليلي الوزير السابق والأستاذ بالكلية الزيتونية فبدأ كلمته بتوصيف الواقع واقع الشأن الدّيني في تونس ثم أقام مقارنة بين ما كان عليه الشأن الدّيني قبل الثورة حين كانت تتحكم فيه شخصية واحدة وجهة واحدة وحزبا سياسيا واحدا كبل التطور والنمو وقيده بما أضعف دوره الفكري والاجتماعي، وبين ما بعد الثورة الذي كان الضعف فيه يعود لأسباب أخرى مختلفة راجعة في أغلبها للانفلات الذي عرفته جهات عديدة كالإدارة، وأغلب مؤسسات الدولة، وغير ذلك. فصور لنا مشهدا من الصراع بين جميع الأطراف على افتكاك جانب كبير من الهيمنة كالفكر السلفي، وكالتشيّع، وأيضا الجمعيات التي تسعى لبث سلوكات لا تنسجم مع مجتمع عامّته وأغلبيته تحمل مرجعية إسلامية، كذلك الصراع السياسي الذي يسعى أغلب أطرافه إلى التصويت والانتخاب ممّا جعل جميع هؤلاء يسعون إلى استغلال الواقع الديني ومغازلة بعض الجهات لجمع أكبر مخزون انتخابي. كذلك فنحن نجد أنفسنا أمام تنوع مذهبي وعقائدي وهذا بالنسبة للدولة التي تعتبر نفسها راعية للشأن الديني يؤذن في المستقبل بتوترات عديدة، لا بدّ من البحث لها عن حلول حقيقية.
وحمّل الأستاذ المحاضر مسؤولية واقع الشأن الديني لأربع جهات هي:
1. وزارة الشؤون الدينية، (يقول: إنّ ميزانيتها 97 بالمائة منها للأجور والبقية لا تستطيع أن تنهض بدور تكوين وتدريب الأطر المسجدية من خلال الدورات أو الندوات أو المؤتمرات أو التدريبات أو حتى الكتب والنشريات)
2. المجلس الإسلامي الأعلى، (معطل منذ أربع سنوات)
3. دار الإفتاء، (دورها معطل أيضا)
4. جامعة الزيتونة (في حاجة إلى تثوير)
مع أنّه قدم بعض المبررات التي دافع بها عن هذه المؤسسات، باعتبار ما له بها من علاقة وطيدة كوزير سابق لوزارة الشؤون الدينية وكنائب رئيس الجامعة الزيتونية، لكنه ومع ذلك يراها تتحمل مسؤولية ما صار إليه واقع الشأن الدّيني. ثمّ أشار السيد المحاضر إلى أنّ هذه المؤسسات الأربع المذكورة لا تعمل في انسجام وتعاون ولا يربط بينها أي رابط، وممّا زاد الأمر سوءا تعدّد الجهات المتدخّلة، مما يعني ضعف الرؤية الجامعة وانعدام التنسيق لغياب المشروع الوطني الكبير. فلم تعد هناك ثقة في المؤسسات الرسمية للدولة المهتمة بالشأن الديني، هناك أيضا ضعف التأطير الدّيني، ضعف مستوى الإطارات الدّينيّة، ضعف مضامين ومؤسسات التكوين، ضعف مستوى المعرفة الدّينيّة، ضعف تأثير الإرشاد الدّيني، وتعليم الدّين للصغار هو تعليم غير ملائم، كذلك وضعية المعالم الدّينيّة من مساجد وجوامع وزوايا وكتاتيب دينيّة وغيرها. فمن مقتضيات رعاية الدولة للدّين أن تضمن حسن تسيير المساجد وغيرها من المعالم الدّينية وتجنبها الفوضى والعنف بأنواعهما. كما يجب كذلك تصحيح الخطاب الدّيني الذي يلقى على المنابر، لأنّه ما كلّ مرّة تسلم الجرّة. فحسب الإحصائيات أكثر من 40 بالمائة من الأئمة الخطباء لا يتجاوز مستوى تعليمهم المستوى الثانوي، وهذا يؤثر سلبا على مستوى الخطاب الديني في المساجد عموما، وهذا يغذي الاحتجاج والانفلات والفوضى ويضعف الثقة بالمرجعية الدينية التونسية، وهذا على أرض الواقع واضح وجليّ. إذن، حسب رأي السيد المحاضر، لابدّ على الدولة مثلما تستثمر في الأمن، ومثلما تستثمر في الدفاع، لابدّ لها أن تستثمر في الجانب الروحي وأن تصنع رموزا علمية ثابتة في بلادنا تكون بمثابة المرجع للتونسي. وفي الأخير قدم لنا السيد منير التليلي رؤية لما نتمنى أن يكون عليه الفضاء الديني الذي نعيشه اليوم، أن يكون فضاء دينيا محصنا من الإرهاب ومن التأثيرات الخارجية التي تريد فرض أنماط من التديّن دخيلة على المجتمع التونسي، ومن التأثيرات المتناقضة للخيارات الوطنية. فضاء دينيا هادئا يحقق الأمن الروحي ويضمن التعايش البناء بين مكونات المجتمع. أيضا فضاء دينيا منظما وفيه مؤسسات مستقرة تؤدي وظائفها وأدوارها بطريقة متكاملة. فضاء دينيا أيضا موصولا بالموروث الثقافي ومنفتحا على المعاصرة.
ثمّ أحيلت الكلمة إلى الدكتور حميدة النيفر رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدد وهو أيضا رئيس اللجنة التسييرية لمشروع اليد في اليد لمكافحة التطرف والإرهاب التابع لمركز دراسة الإسلام والديمقراطية، فبدأ كلامه من حيث أنهى الأستاذ منير تليلي وهي نقطة هشاشة الشأن الديني في تونس وعدم تحصينه، وذكر أنّه سيسعى للجواب عن السؤال لماذا؟ أي لماذا يوصف الشأن الديني بالهشاشة وعدم التحصين؟
فقسم كلامه إلى ثلاث فقرات:
الفقرة الأولى تتعلق بالسياق التاريخي للشأن الدّيني، ذكر فيها أنّ أهم ما يميز هذا الشأن الديني قديما هو الإهمال التام. فلا يتحدث عنه، وإن وقع الحديث عنه فيكون ذلك في جزئيته، أي أنّه لم يكن هناك اهتمام بالشأن الدّيني وإنما كان هناك اهتمام بسيط بالشؤون الدينية وليس الشأن الديني عامة، أي مسألة الحج أو العمرة وكيفية تنظيمها، المسجد الفلاني في حاجة إلى ترميم وأشياء من هذا القبيل ولكن الشأن الديني في تونس عامّة فلا يقع الحديث عنه، لا يمكن اعتبار الحديث عن الشأن الديني إلا إذا كانت هناك رؤية كاملة تنتظم فيها جميع الشؤون الدينية. وأهمّ من ذلك أنّه ليست له استقلالية وإنّما هو من اهتمامات السلطة والدولة. مثال ذلك مسألة الأوقاف وهي مظهر من مظاهر استقلالية الشأن الدّيني فقد ألغيت، لماذا؟ لإلغاء أي استقلالية للشأن الديني، وتكفلت الدولة بالعناية به، كيف تفعل ذلك؟ هذا موضوع آخر.
ما معنى الثورة بالنسبة للشأن الدّيني؟
عرف الدكتور الثورة بالنسبة للشأن الديني على أنّها الوعي بأننا دخلنا زمنا جديدا. وهذا يبدو غائبا عن وعي كثير من الأطراف. حتى من أراد أن يعيد الاعتبار لمؤسسة جامع الزيتونة كان في ذهنه هدف واحد هو العودة إلى الزمن الذهبي. العودة بالزمن إلى الوراء وهذا غير ممكن. وهذا ليس حكرا على المهتمين بالشأن الديني فحتى الذين يسمون أنفسهم حداثيين لم يفهموا الأمر أن هناك زمنا جديدا ومقتضيات لهذا الزمن الجديد.
أمّا الفقرة الثانية من مداخلته فاعتبر أنّه يمكن جمعها في عنوان واحد وهو: كلّنا مسلمون. هذا العنوان فيه إشارة إلى أن الشأن الدّيني لا يمكن أن يكون من اختصاص جهة سياسية معينة وإنّما هو من اهتمامات الجميع. وهذا يقتضي حوارا وطنيّا في الشأن الدّيني. لماذا نقوم بحوار وطني في المسائل الاقتصادية والاجتماعية ولا نقوم بحوار وطني في المسألة الدينية؟ وهي دعوة صريحة من الدكتور لفتح باب التشاركية في تسيير الشأن الديني.
وأمّا الفقرة الثالثة فتتعلق بمدارج الإصلاح في الشأن الديني:
– الدرجة الأولى منه هي إدراك أن هذا الشأن له ديناميكية معينة فلا يمكن أن تظل مؤسسات الشأن الديني منفصلة لا يجمعها أي رابط أو رؤية.
– النقطة الثانية ضرورة ضبط عمل كل مؤسسة من هذه المؤسسات حتى لا يكون هناك أي تداخل.
– النقطة الثالثة لا بدّ من صناعة وعي لدى الشأن الديني لأن الحياة في تبدل مستمر، لأنّه إن لم يستطع الشأن الديني أن يبني وعيا عن الواقع ومقتضياته فإنّه سيظل في منأى عن الناس وانتظاراتهم.
– النقطة الرابعة لا بدّ أن يكون هناك بناء مؤسساتي، فلا يظل الأمر متعلقا بوجود شخص معين فقط.
– النقطة الأخيرة هي أنّ هذا كلّه لا يمكن أن يتحقّق في ظل غياب إرادة سياسية تشاركيّة حقيقية.
ثم أحيلت الكلمة للدكتور الأستاذ محمد شتيوي مدير مركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان في كلمته التي عنوانها: الإصلاح وفقه تخريج الأمة الوسط، فافتتح مداخلته بشرح عنوان المداخلة فبين أنّ المقصود من ذلك هو دور الأئمة في إصلاح الأمة وإعادة تخريجها. فبدأ بالحديث عن أهميّة دور الإمام مستفيضا في ذلك بما قدمه من أدلة نصية آيات قرآنية بيّن من خلالها أنّ الإمام لا يمكن أن ينهض بدوره الريادي والإصلاحي الخادم للأمّة والهادي والمرشد إلاّ إن كان من ناحية ربانيا بما يعنيه ذلك من صلاح وتقوى، ومن ناحية ثانية عالما متعلّما من أجل مواكبة تطورات الواقع وفهم متغيراته وديناميكيته. ولا بدّ أن يكون وسطيا من أجل أن يحقق الشهادة على الناس. قال تعالى: كنتم خير أمّة أخرجت للناس. وقال: وكذلك جعلناكم أمّة وسطا. ولكن المشكل أنّ الأمّة قد ضعفت فيها الخيرية وانحرفت عن الوسطية فلم تعد تصلح للشهادة على الناس. فخرجت عن السياق التاريخي وصار العالم كله يخاف منها، لم تعد تصنع التاريخ بل صاروا هم يصنعون لها تاريخها. من هنا وجب إخراج الأمّة من جديد. وفعلا بدأ ذلك مع التيار الإصلاحي، ثم جاء التيار المتطرف العنيف، ثم جاء التيار الثوري والثورة. وبدت من خلال ذلك دعوة الدكتور واضحة لدعم التيار الإصلاحي لسلميته والابتعاد عن العمل الثوري والجهادي لأنهما يخلفان الخسائر ويهددان السلم.
وليس ببعيد عن ذلك المداخلة الأخيرة للسيدة بثينة الجلاصي، الأستاذة المحاضرة بجامعة الزيتونة حول: دور الأئمة في مكافحة التطرف بين الدعوة وإكراهات الواقع. وأشارت الأستاذة منذ البداية أن كلمتها ستطرح أسئلة أكثر مما تقدّم أجوبة، وأول هذه الأسئلة كان: إلى أي مدى اضطلع الإمام في تونس بدور فعال في مكافحة التطرف؟ هل التطرف سلوك خاص بالمتدينين دون غيرهم؟ أم هو سلوك إنساني قد يتصف به أي إنسان مهما كان مستواه الفكري أو الاجتماعي؟ أين التطرف في ظل واقع سياسي واقتصادي وثقافي يكرس ثقافة العنف وثقافة الكراهية؟ ومتى كانت اليد تصفق وحدها؟ ما دور المؤسسات الدينية وعلى رأسها وزارة الشؤون الدّينيّة في توفير مناخ ملائم ليتسنى للإمام أن يتصدّى للتطرف بجميع أشكاله؟
ثم ذكرت أنّ المسألة كلّها نسبيّة إذ ليس كلّ إمام واع بخطورة المسألة والظاهرة، بل رأت أن المساجد التونسية كانت منذ الثورة مسرحا لإنتاج الخطاب الديني المتطرف مما دعا الوزارة إلى تحييد المساجد والسعي لتكوين الأئمّة. ولكن هذا لا ينفي وجود خطاب معتدل ووسطي. ولكن الإمام إن لم يستطع النهوض بدوره فذلك يعود للظروف السلبية والرديئة التي يقوم فيها الإمام بواجبه. بل المسؤولية تتحملها أطراف عديدة كالإعلام، والجامعة، والوزارة، وغيرها.
ثمّ في الأخير بعد إنهاء الأستاذة كلمتها فتح الدكتور رضوان المصمودي المجال للنقاش ومداخلات السادة الحضور فكانت المداخلات عديدة ومتنوعة غلبت عليها الأسئلة التي تحوم حول الوضع المتردي للأئمة على جميع المستويات. وكان تفاعل السادة المحاضرين عميقا ودقيقا يجيب عن بعض التساؤلات ولكنه أيضا يشارك الحاضرين بعض همومهم مما يعبر عن طبيعة الهواجس التي يتشاركها الجميع والتي تتعلق بواقع الأئمة وطبيعة الخطاب الديني ودور كلّ منهما في التصدي لظاهرة التطرف والإرهاب في تونس.