افتتح الدكتور رضوان المصمودي، رئيس مركز دراسة الإسلام والديمقراطية، الندوة بمداخلة تمهيدية وضع فيها موضوع الندوة ضمن إطاره من التوجّه العام الذي اتخذه المركز في العمل على إصلاح الشأن الديني منذ سنوات بالتعاون مع وزارة الشؤون الدّينيّة، وبيّن من خلال هذه الكلمة أهمية وحتمية هذا الإصلاح في الحال لما ظهر بالكاشف في بلادنا من فساد أخلاقي وعدم تحمل السلطة المسؤولية الكافية للنهوض بهذا الأمر وعدم تشجيع ودعم المجتمع المدني للقيام بذلك، والحال أنّ التصدّي لظاهرة الإرهاب والتطرف في بلادنا لا يمكن أن يتحقق إلاّ من زاوية إصلاح الشأن الدّيني لأهميته في نشر الوعي ودوره الفعال في غرس قيم التعايش السلمي والمواطنة الفعالة والديمقراطية والانفتاح على الآخر وقبول الاختلاف ولذلك تمّ استدعاء أربعة من خيرة المفكرين التونسيين في الشأن الديني.
قدم الدكتور احميدة النيفر، رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد، المداخلة الأولى حول: الشأن الديني والفعل السياسي، وجوه الالتباس الخمس. فبدأ بالحديث عن طبيعة المسألة المطروحة وهي إصلاح الشأن الديني من أنها مسألة خلافية، لم يقع حولها اتفاق منذ القديم، واليوم هي أكثر خلافية لأننا نعيش حالة ثورة لا يمكن ضبطها، إضافة إلى غياب يكاد يكون تاما في فترة ما قبل الثورة للفعل السياسي بمعناه الحقيقي من أن السياسة تعني تنظيم الاختلاف وحضور أشكال من القهر والتعسف والتمويه وغيرها، التوجه اللاسياسي. وهنا يمكن الحديث عن خمس وجوه من الالتباس في مسألة إصلاح الشأن الديني، ولا بدّ من معرفتها للتمكن من تحقيق هذا الإصلاح، وهي:
1. التباس المماهاة مع الغرب: وهو اعتقاد أن ما جرى في الغرب لا بدّ أن يقع لنا، ممّا يقتضي أن نمارس نفس الإصلاح الديني الذي حدث في الغرب، في حين أن التشابه بين الوضعيتين مغلوط وغير صحيح، وذلك لاختلاف التجربتين الغربية الكنسية والعربية الإسلامية.
2. التباس في فهم السيرورة التاريخية الوطنية: من خلال عدم فهم طبيعة العلاقة بين ما هو سياسي وما هو ديني، أي العلاقة بين مؤسسة الدولة ومؤسسة الدين، والمحاولات المستمرة للهيمنة على الدين من طرف السلطة، وقد نجح ذلك نجاحا كبيرا في فترة بورقيبة، وهو التباس واضح لا يمكن تحقيق إصلاح الشأن الدّيني إلاّ بإدراكه وفهمه.
3. الالتباس الثالث بعد الاستقلال لم يعد هناك شأن ديني بل صارت شؤون دينية، هناك ما يتعلّق بالجانب التعبدي (الامامة والحج والعمرة …)، هناك ما يتعلق بالتعليم الرسمي، بالإفتاء، بالبحث الأكاديمي، بالمجلس الإسلامي، بالجانب الشعبي (الزوايا والطرق…)، بالوافد الديني…، ليس هناك نسق يجمع الشأن الدّيني عامة، وإنّما هناك تشظّي وتشتيت للشأن الدّيني في مجالات مختلفة لا رابط بينها.
4. الالتباس الرابع هو الفرق بين السلطة الدّينيّة والمرجعيّة الدّينيّة، في فترة من الفترات كانت هناك سلطة سياسيّة تستفيد من المؤسسة الدّينيّة لتقوي سلطتها، فهي سلطة دينيّة، وأمّا المرجعيّة فهي التي تنتج فكرا جديدا بقطع النظر عن السلطة السياسيّة. فيجب على المؤسسة الدّينيّة أن تكون لها استقلاليّة تمكنها من انتاج فكر يتماهى أو يختلف مع السلطة إلى حدّ ما، لا يهم، المهم أنّه يعمل باستقلال عن الهيمنة وتسيير السلطة له ليحقق دوره وواجبه.
5. الالتباس الخامس يتعلق بمفهوم الدولة، ما هي علاقة الشأن الديني بالدولة، هل هي الدولة المركزية، هل هي الدولة القابضة المسيطرة على كل شيء وخصوصا المؤسسة الدينية، هل هي الدولة التي تحمي المجتمع وتتسلط عليه؟ هل هي الدولة التي تصون مبادئ المجتمع من خلال القانون؟ هل هي الدولة التي ترتقي بواقع الاختلاف؟
في الختام أبدى الدكتور رأيه في أصل المشكل في هذه المسألة وهو أننا أصبحنا في واقعنا الحالي الذي تهيمن فيه السلطة على الدين ننتج دينا على حسب المطلوب السياسي وليس دينا على حسب أصوله الثابتة والاحتياجات المجتمعية، وهو ما وصل بالخطاب الدّيني إلى هذا المستوى من التراجع. وهذا أيضا ممّا شتّت الشأن الدّيني وأفقده دوره ووظيفته. والحل أن تكون الدولة راعية للشأن الدّيني ليس بمعنى الهيمنة ولكن بمعنى التنسيق بين جل المؤسسات لتحقيق اصلاح ديني يدفع نحو مزيد الاتزان الفكري والاجتماعي، مؤكدا أن هذا هو المشروع الذي يشتغل عليه من خلال مدخل المجتمع المدني بالتعاون مع مؤسسات الدولة للعمل على إصلاح الشأن الديني في تونس.
ثم أحيلت الكلمة للدكتور علي العشي، وهو أستاذ الدراسات والتربصات بجامعة الزيتونة لإلقاء كلمته التي عنونها بتجديد الخطاب الدّيني: مدخلا لإصلاح الشأن الدّيني. وبدأ كلامه بملاحظة غاية في الأهميّة، وهي أنّ الفترة التي تعيشها البلاد اليوم هي فترة مخصوصة، لأنّها تابعة للثورة التي عاشتها البلاد، فالبلاد ما زالت تعيش نوعا من الفوضى أثرت تأثيرا كبيرا على الخطاب الديني الذي لم يعد ينتظم في توجه موحّد، وإنما صارت كل فئة تصوغ خطابا مختلفا عن غيرها. ومن ناحية ثانية فالخطاب الديني نفسه صار ضعيفا إلى درجة لم يعد يقنع أحدا. ودعا الدكتور صراحة إلى استعمال الآليات الحديثة في عرض الخطبة الجمعية لعرض صور أو فيديوهات أو غيرها لمزيد التأثير على المصلي المتلقي من باب تطوير الخطاب الدّيني، خاصة أنّه لا يوجد أي نص يمنع مثل هذا التطور. كما دعا الدكتور إلى استخراج ما ورد في النص القرآني من قصص وأمثال لتحويله إلى منتوج سينمائي قادر على التأثير على المشاهد أكثر بكثير ممّا تفعله الخطب الجمعية، وإن لم يكن ذلك من باب الدعوة إلى التخلي عن الخطبة الجمعية، وإنّما من باب تجديد الخطاب الدّيني والرفع من قدرته على التأثير على المتلقي.
قدم الدكتور سامي براهم وهو باحث بمركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعيّة، المداخلة الثالثة تحت عنوان “تحدّياتإصلاح الشّأن الدّيني في تونس بعد الثّورة” ذلك أن الشّأن الدّيني لا يزال منذ ما قبل الثّورة إلى اليوم موضوعا للتّجاذبات السياسويّة والأيديولوجيّة عوض أن يكون موضوعا للتّحليل والتّقويم من أجل التّصحيح والتّأسيس والبناء، مع التمييز في هذا السّياق بين الدّين وهو مجال يتعلّق بحريّة المعتقد والضّمير والتّفكير، والشّأن الدّيني الذي يتعلّق بالمصالح العامّة والحقوق الجماعيّة. حيث تميّز الوضع الدّيني عقيب الثّورة بـاختلال التوازن بين الدولة والمجتمع قبل الثورة لصالح الدّولة وبعد الثّورة لصالح المجتمع مما أدى إلى اضطراب في مجالات الشّأن الديني والإعلامي والثقافي وبالتالي التّصادم بين المجالين الإعلامي والثّقافي من جهة والمجال الدّيني من جهة أخرى وقد أفضى ذلك إلى الانقسام وحدّة الاستقطاب ووضع الفاعل الدّيني موضع اتّهام في غياب تقاليد حوار وأهليّة لخوضه. فبرزت نتيجة لذلك هويّات دينيّة جديدة بطريقة غير معهودة، كما تم اختراق الفضاء الدّيني المحلّي بإرادات خارجيّة فقهيّا ودعويّا وفكريّا وسياسيّا وماليّا والتشكيك في شرعيّة المؤسسات الدينية القائمة المطالبة بحلها والاستعاضة عنها بأخرى.وأشار السيد سامي في هذا السياق إلى دور الإصلاح الديني في الانتقال الديمقراطي كشرط للسّلم الأهلي والتّضامن والتّراحم والتّوازن النّفسي والسّلوكي وكمحفّز على التنمية التي لا تحتاج فقط للبرامج والموارد والسياسات العامّة بل كذلك للقيم والأمل والدّافع للعمل ويمكن للشّأن الدّيني من هذا المنطلق أن يكون رصيدا للمشروع الوطني بكلّ أبعاده الوطنيّة والحضاريّة والإنسانيّة ودافعا للانتقال الديمقراطيّ.
أما المداخلة الأخيرة فقد قدمها الدكتور محمد المستيري، وهو أستاذ بجامعة الزيتونة ورئيس مركز الدراسات الحضارية بباريس، وموضوع مداخلته: إصلاح الشأن الديني إستراتيجية للتوعية المواطنية الدينية، حيث بدأ بالحديث حول الترابط بين الدولة والمجتمع المدني والشأن الديني في تونس مؤكدا أننا نعيش ظاهرة دينية تفتقر إلى خطاب ديني تأسيسي حقيقي تتمثل فيه مشروعية العقل الديني الإسلامي ومشروعية العلوم الشرعية الإسلامية. تناول السيد محمد العناصر الأساسية الأربعة التي تحدد معنى الشأن الديني وهي عنصر الخطاب الديني وعنصر الثقافة الدينية وعنصر التعليم الديني وعنصر البحث التجديدي والاجتهادي الديني وأكد أن المشكلة في تونس تكمن أساسا في الالتباس بين الدين ومسالة التوظيف الديني وهو ما ينص الدستور على منعه (الفصل السادس) على اعتبار هذه الأشكال من التوظيف محاولة قصريه لعلمنة المشهد العام التونسي تريد فصل الشأن الديني عن الشأن العام موضحا انه لا يمكن الفصل بينهما وان مسالة الهوية دائما ما تعود إلى سطح الاهتمامات مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية في العديد من الدول وليس فقط في تونس. كما أشار إلى انه لا يمكن الحديث عن مستقبل الشأن الديني في تونس دون وضع إستراتيجية واضحة ودقيقة في تجديد الخطاب الديني وتطويره ليعود إلى أصوله المواطنية التي تهتم بالشأن العام ولا تنفصل عنه من خلال فقه المشكلات الجديدة للمشترك الإنساني.
في النقاش، أكد الحضور على أن مضمون الخطاب الديني يشهد أزمة في بلادنا مشددين على ضرورة تحمل الأطراف المعنية (المؤسسات الدينية) مسؤولية التصدي لحملات التهجم الممنهجة على الدين. كما استنكر البعض التشكيك في المرجعيات الدينية داعين إلى النأي بهذا المجال عن التوظيف الحزبي. وفي هذا الإطار، تم التأكيد كذلك على أهمية الأوقاف في إصلاح الشأن الديني لمعالجة مسالة غياب تكوين الأئمة. كما تمت الدعوة إلى تجديد الفكر الديني ليتلاءم مع متطلبات المرحلة الراهنة.