عبد الله الجبور يعرض تقرير حالة التنوير في عمّان

قدّم الباحث الأستاذ عبدالله الجبور كلمةً، عرض فيها ملخّصا لتقرير حالة التنوير في عمّان، خلال احتفاليَّة عمّان عاصمة التنوير 2019 التي أقيمت بتاريخ 23 نوفمبر 2019 في المركز الثقافي الملكي، وفيما يلي نصّها:

معالي الأستاذ الدكتور باسم طويسي وزير الثقافة راعي الحفل الأكرم

السيِّدات والسادة أعضاء الرابطة العربية للتربويِّين التنويريِّين

الضيوف الكرام

أهلاً وسهلاً بكم في الأردن، أرض الأنبياء والصحابة والحجّ المسيحي، أهلاً بكم في أردن الأدوميَّة، المؤابيَّة، العمونيَّة، الأنباط، وأردن مؤتة واليرموك، أردن الثورة العربيَّة الكبرى.

قبل تقرير حالة التنوير، سنعود بذاكرتنا قليلاً إلى العام 1806 م، عندما هُزِمت ألمانيا أمام نابليون، عندها انتاب الشعب الألماني شعورٌ مريرٌ بالهزيمة، واكتسح هذا الشعور قلوب وعقول الفلاسفة والمفكِّرين الألمان، معلنين أنَّ الهزيمة كانت تربويَّة فكريَّة بالدرجة الأولى.

استجاب الألمان لنداء مفكِّريهم وفلاسفتهم، فعملوا على مراجعة الأنظمة التربويَّة والفكريَّة لتحقيق حداثة، مؤمنة بأهمّيَّة تنوير العقل في بناء الإرادة الحرَّة في نفوس الأبناء والأطفال إيمانا بالمستقبل.

فيما بعد تجرَّع الفرنسيُّون الهزيمة أمام ألمانيا في الحرب العالميَّة الثانية، وكما فعل الألمان للنهوض، تأمَّل الفرنسيُّون في عوامل الهزيمة، ووقع في اقتناعهم أنَّ هزيمتهم كانت هزيمة صامتة لنظام تربوي لم يستطع إطلاق طاقات شعبه، وأصدرت حكومة فرنسا في هذه المناسبة تقريرا عرف باسم “تقرير الجزائر” أعلنت فيه أن الهزيمة كانت نتاجًا لتردِّي النظام التعليمي وإخفاقه، ومن ثم عمل الفرنسيون كما فعل الألمان من قبل، على تحديث نظامهم التربوي وتنويره حتى عادت فرنسا إلى الصدارة مجدّدا.

في مشهد النهضة الأوروبيَّة بزاوية زمنيَّة أكبر، نجد خمس محطَّات تراتبيَّة مرَّت بها النهضة:

1.       بالإصلاح الديني في القرن الخامس عشر.

2.       بالنزعة الإنسانيَّة في القرن السادس عشر.

3.       بالنزعة العقلانيَّة في القرن السابع عشر.

4.       بالتنوير والنهضة في القرن الثامن عشر.

5.       ثم بالعلم في القرن التاسع عشر.

معظم رواد هذه النهضة كانوا فلاسفة تربويِّين، مدركين أنَّ التنوير لا يكون خارج النسق التربوي، والتربية مسؤولة عن إعداد العقل وتشكيله.

في العودة أكثر إلى الماضي، تحديدا إلى المنطقة العربيَّة، إبان القرن السادس الميلادي، والمنطقة تموج بالظلمات، أحدثت آيات من القرآن الكريم، ثورةً فكريّة اجتماعيَّة قامت على العقل والعلم، فأخرجت الناس من الظلمات إلى النور (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ)، بالتالي، فالتنوير ليس امتيازا لأوروبا وحدها، بل هو مشاعٌ إنسانيّ وقيمة كونيَّة.

فيما يتعلق بتقرير حالة التنوير في الأردن، الذي جاء استكمالاً لجهود الرابطة في إنجاز تقارير الحالة التنويريَّة في كل من تونس والمغرب، وقد ساهمت التقارير التي تمَّ استعراضها بحضور أصحاب المصلحة؛ في تسليط الضوء على المشاريع والبرامج المنجزة في الحقل التربوي التنويري، سواء تلك التي أحدثت تغييرا وتركت إرثا يمكن العودة له واستخدام أدواته الإصلاحيَّة في المجالات التربويَّة، أو المشاريع التي لم تحدث تغييرا حقيقيّا، والوقوف عند عوامل إخفاق هذه الجهود وكيفيَّة التغلّب عليها.

يقرأ تقرير الحالة التنوير، مكونات أساسية ثلاثة، ينطلق منها في عملية الوصف والتحليل، وهي؛ راهنيَّة التعليم والتجديد الديني، جهود المجتمع المدني في التنوير، حالة الثقافة والإنتاج الفكري، ومن ثم الوقوف عند العلاقة ما بين أصحاب المصلحة في هذه الجهود.

تمَّ جمع البيانات والمعلومات الواردة في التقرير من خلال الدراسات والأبحاث الوطنيَّة، وتقارير حالة البلاد التي تصدر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي، بالإضافة إلى الاستعانة بالمؤسَّسات الأعضاء في الرابطة للتعرّف على جهود الدولة والمجتمع المدني في هذا المجال.

مشهد التعليم

بدأ التعليم العالي بالأردن بإنشاء دار المعلِّمين في عمان عام 1958، بمستوى السنتين بهدف إعداد المعلِّمين لمدارس وزارة التربية والتعليم، ثم توالى إنشاء دور المعلِّمين، وأصبح يطلق عليها معاهد المعلِّمين وتطوَّرت تلك المعاهد لتصبح كليَّات مجتمع في عقد السبعينات.

أدركت الأردن أهميَّة مراجعة مناهج ومقرَّرات التعليم في الأردن، وبخطوة عملية أنشئت عام 2017 المركز الوطني لتطوير المناهج كهيئة مستقلة تتيح مشاركة المجتمع المدني والمبادرات والباحثين والخبراء المنشغلين على مراجعة وتحديث العمليَّة التربويَّة والتعليميَّة ومساندة الدولة في مسار إصلاح منظومة التعليم الأردنيَّة.

مخرجات هذه الجهود عديدة، منها:

–        إلزاميَّة التعليم في مرحلة رياض الأطفال ابتداءً من العام القادم.

إشكاليات مشهد التعليم عديدة، منها تأثُّر جودة التعليم بسبب استضافة المدارس للاجئين السوريِّين، وضعف التزام المنظَّمات الدولية بوعودها لدعم الأردن في تعليم أطفال اللاجئين.

من بين الإشكاليات الفكريَّة في المؤسَّسة التعليميَّة، هو غياب تدريس الفلسفة في المؤسَّسات التعليميَّة. بالرغم بن وجود عشرة جامعات رسميَّة في الأردن، إلا أن واحدة منها فقط تدرّس الفلسفة، وهي الجامعة الأردنيَّة التي نجحت مؤخّرا في إلزاميَّة تدريس الفلسفة كمتطلَّب إجباري لجميع الطلبة، شأنها شأن مادتي التربية الوطنيَّة والثقافة الإسلاميَّة.

مشهد الثقافة

يعرّف كتيب خطَّة التنمية الثقافيَّة الأردنيَّة، وهي أول خطَّة مكتوبة في تاريخ وزارة الثقافة، بأن الثقافة هي “طرق العيش والتفكير”، وتقوم فلسفة الوزارة في عملها على من مبدأ أن الثقافة لا تصنعها المؤسَّسات الحكوميَّة، لكن تصنعها الجماهير وقطاعات المثقَّفين، ولا تسعى الوزارة إلى أن تصبح سلطة ثقافيَّة، بل تسعى إلى تعزيز دور الثقافة في حياة المجتمع بحيث تصبح السلطة للثقافة.

جاءت نشأة وزارة الثقافة استجابة لفهم صانع القرار لأهمّيَّة الثقافة ودورها في المجتمع، وتجسيداً لرؤية الدولة للثقافة. ويشار إلى أن الأردنّ كان قد احتضن أوَّلَ مؤتمر لوزراء الثقافة العرب عام 1976، الذي صدر عنه توجُّهٌ بأن تكون هناك وزارة ثقافة في كل دولة عربيَّة، ممَّا حفز على الاهتمام بالشأن الثقافي في العالم العربي بشكل عام، ولم يكن العمل الثقافي في الأردن حكراً على المؤسَّسة الثقافيَّة الرسميَّة التي أُنشئت عام 1964 (دائرة الثقافة والفنون)، فقد شجَّعت الحكومات المتعاقبة على ممارسة العمل الثقافي، التزاماً بالدستور الذي كفل حريَّة التعبير والرأي والتنظيم النقابي والمهني.

بالرغم من ضعف الإمكانيّات الماديَّة لوزارة الثقافة إلا أنها تبذل جهودا كبيرة في إغناء الثقافة الأردنيَّة، ويعدّ مشروع مكتبة الأسرة بين بين أهم هذه الجهود، وتتجسَّد أهمّيَّة المشروع في كونه الأول في تاريخ الأردن، والثاني عربيّاً بعد مصر. وقد انطلقت المرحلة الأولى منه في إطار مهرجان القراءة للجميع الذي حمل شعار “لكي تتَّسع آفاقك”، انطلاقاً من أنّ القراءة تفتح آفاق المعرفة جميعاً وتنمّي المهارات والقدرة على التواصل.

مشهد المجتمع المدني

تطوّر المجتمع المدني الأردني في الأردن، شأنه شأن الدولة والمجتمع الأردنيّين، تحت تأثير الأحداث والتطوّرات العاصفة التي شهدتها المنطقة العربيَّة منذ الحرب العالمية الأولى وحتى وقت قريب. فقد تأثر الأردن، أكثر من أيّ دولة أخرى في الشرق الأوسط بالحروب والأحداث السياسيَّة، وكذلك بالاضطرابات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي تعرَّض لها الإقليم خلال نحو قرن من الزمن.

قال سمو الأمير الحسن بن طلال في ملتقى “التنمية والتعليم والإعلام في مواجهة التطرُّف” سبتمبر2017 (نحن في زمن صعب نحتاج فيه لاستعادة الفكر التنويري الذي يضع العرب في المكانة التي يستحقّونها فكراً وعملاً وحضارة).

الأردن من بين أكثر دول المنطقة الحاضنة للمجتمع المدني، وعلاقة الدولة بمؤسَّسات المجتمع المدني، علاقة قوية وتكامليَّة، فالدولة تقوم باستشارة مؤسَّسات المجتمع المدني في التشريعات والقضايا المهمَّة.

وتعدّ رسالة عمَّان من بين أهم الرسائل التنويريَّة الصادرة للمنطقة العربيَّة، والتي بدأت برسالة ملكيَّة غايتها أن تعلن على الملأ حقيقة الإسلام وما هو الإسلام الحقيقي، وتنقية ما علق بالإسلام ممَّا ليس فيه، والأعمال التي تمثّله وتلك التي لا تمثّله. وكان هدفها أن توضح للعالم الحديث الطبيعة الحقيقيَّة للإسلام وطبيعة الإسلام الحقيقي. ومن أجل إعطاء البيان شرعيَّة دينيَّة أكبر، بعث جلالة الملك عبد الله الثاني بالأسئلة الثلاثة التالية إلى أربعة وعشرين عالماً من علماء المسلمين ذوي المكانة المرموقة من جميع أنحاء العالم، يمثّلون جميع المذاهب والمدارس الفكريَّة في الإسلام:

 1.      تعريف من هو المسلم؟

2.       وهل يجوز التكفير؟

3.       ومن له الحقّ في أن يتصدّى للإفتاء؟

في النهاية؛

سعى الأردن باستمرار لاختراق حاجز النار بالسلام والاعتدال، وسط حالة عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. ولعل مقولة إنَّ الأردن “بيت هادئ في حيٍّ مضطرب” تمثِّل إسقاطاً تاريخيّاً واقعياً لمثل هذه الحالة، ساعدته حالة الهدوء هذه في احتضان وإيجاد مساحات عمل للمجتمع المدني وبرامجه التربويَّة والتعليميَّة.

عاشت الأردن، منارة عربيَّة للسلام والطمأنينة وإغاثة الملهوف.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته