شارك الدكتور أبو بكر علي كارواني، بمداخلة
عنوانها (التنوير وصناعة المستقبل؛ إشكاليَّة المفهوم) ضمن فقرة الندوات الفكرية خلال
الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين الذي عقد في عمّان
الأردن، بتاريخ 23 نوفمبر 2019.
فيما يلي نصّ المداخلة:
إشكاليَّة المصطلح أو المفهوم في واقع المسلمين وأممهم، واقع، يدل على ارتباك المشهد الثقافي وعدم القدرة على إنتاج المفهوم للتعبير عن الواقع الفكري والديني والسياسي والاقتصادي والحضاري. ويعدّ توقف المسلمين عن إنتاج المفاهيم، سمة من السمات البارزة للأزمة الفكريَّة والتوقُّف عن الإبداع والتجديد الحقيقي، وهو فقدان المبادرة الحضاريَّة. لما يترتَّب عليه من استخدام منظومة مفاهيميَّة حضاريَّة ذات خصوصيَّة تاريخيَّة وحضاريَّة. والتي حملت المفاهيم بدلالاتها الخاصَّة، على الأقل في بعض الأبعاد.
ربما أن عولمة الحضارة الجديدة ومفاهيمها تقلِّل من واقع هذه الأزمة، وتقارب الزمان والمكان والحضارات، كل حسب قدرتها على البقاء والتنافس، تجعل من وجود مفاهيم ولغة مشتركة عالميَّة، أقل وطأة مما يتصور. ولكن رغم هذا يبقى استخدام المفاهيم بدلالاتها التاريخيَّة والحضاريَّة الغربيَّة إشكاليَّة، خاصَّة بالنسبة للوسط الإسلامي والمسلمين. وأن فكرة تأصيل الرائج في هذا الوسط في التاريخ المعاصر، زخمت من هذه الإشكاليَّة. لذا على المشتغلين في الوسط الفكري والسياسي والحضاري العام، الوقوف بجديَّة أمام هذه المشكلة وأخذها بنظر الاعتبار والجديَّة. لتوضيح دلالات المفاهيم والرؤى ووضوح الخطاب والبعد عن المعنى الفكري والثقافي. وضرورة إعادة بناء مفهوم (التنوير) و(المستقبل) يندرج في هذا الإطار، ويتطلب توضيح الرؤية بشأنهما وتحديد دلالاتهما ولو بصورة خطوط عريضة وعامة، تجنباً للضبابيَّة والعموميَّة والتشتت. ونحن من جانبنا وفي هذه الورقة نسعى لتسليط الضوء على هذين المفهومين، كإشكاليتين في انتظار إعادة بنائهما.
أولاً: حول اشكاليَّة مفهوم التنوير:
ربما يتبادر إلى الذهن بإن إثارة سؤال: ماذا نعني بالتنوير بالضبط وكيف نفهمه؟ يثير الاستغراب. ولكن في الحقيقة، الأمر ليس كذلك، بل ظل سؤلاً أساسياً وبنيويا، يتطلب الجواب الفكري. ويأخذ مشروعيَّة هذا السؤال من مسائل عديدة، منها:
لذا، فتحديد مضمون ودلالات المفهوم مهمَّة للغاية، لأسباب منها:
والآن نسأل ماذا نعني بالتنوير؟
وبهذا نقرّب المفهوم من مفاهيم أخرى كالهداية والترشيد والتبصير وغيرها؟
والذي هو مرادفه للإيمان بالتقدم المستمر، والعلمانيَّة، والديمقراطيَّة، وسيادة القانون والمواطنة المتساوية، القطيعة المعرفيَّة والمؤسسيَّة مع الماضي والثورة على نمط السائد من المنظومة الفكريَّة والأخلاقيَّة والمجتمعيَّة. وإدخال الفكر والإنسان في التاريخ، والتفريق بين التسليم للقدر والتكيُّف مع حركة التاريخ؟
ولكن حسم نموذج المعرفة بهذا الصدد والإطار المفهومي، وتحديد الدلالات، لا يقتصر على الجهد النظري المجرد فقط، للقيام بتعريف جامع مانع للتنوير، بل يتعدى ذلك إلى تحليل الواقع بمكوناته وتعقيداته وأسئلته وتحدياته.
حتى يتسنى لنا إعادة بناء مفهوم التنوير بما يتلاءم مع الاستجابة لتحديات وأسئلة ومتطلبات هذا الواقع. وبإمكاننا اختصار عناوين التحديات والمشاكل في الواقع الإسلامي مع وجود اختلافات حسب واقع كل الدول والمناطق، كالآتي:
المستقبل
ثانياً: حول إشكاليَّة مفهوم المستقبل وتصوره:
على غرار ما تحدثنا عنه حول مفهوم التنوير، فإن مفهوم المستقبل أيضا، يحتاج إلى التحديد والتصوير وضبط الدلالات.
ماذا نعني بالمستقبل حتى لا يكون ترتيباً زمنياً روتينياً للحاضر بل زمناً حضارياً لتحقيق أهداف مجتمعية كبرى وخلق مجتمع الرفاهيَّة والقدوة والقدرة؟ ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال فإنه باستخدامنا لكلمة الصناعة، حسمنا الأمر بأن المستقبل (تصنع) والصنع يحتاج إلى: العلم، الخطة، الإرادة، الوعي، الموارد، واستغلال الزمن واستثمار الفرص والفاعليَّة والإيمان بحقِّ الإنسان والمجتمع في مستقبل أفضل، والتفكير الاستراتيجي.
ولكن ماذا نعني بالمستقبل المختلف عن الحاضر؟
هل نعني به القطيعة المعرفيَّة والأخلاقيَّة مع ما نحن عليه الآن؟ أم نعني به تحقيق تقدم صناعي واقتصادي مع بقاء نظام سياسي يتَّسم بالتسلط كالنموذج الصيني؟ في كل الأحوال، حينما نتحدث عن خلق شروط وأوضاع حضاريَّة طال انتظارها، ونفكر بالانخراط في التاريخ الحديث والواقع المعاصر، كطرف حضاري وكتلة تاريخيَّة طموحة للتفاعل ولعب دور إصلاحي مدني مستقبلاً على صعيد الإنسانيَّة ومعضلات الحضارة الحديثة، علينا الوقوف على متطلبات بناء مجتمع رشيد مزدهر مستقر مرفَّه نامٍ ومبادر. والوعي بأن هناك معايير عالميَّة للحكم الرشيد والتقدُّم والتخلُّف والمجتمع السعيد لا يمكن إغفالها، وهذا يتطلب:
وفي هذا الإطار نود أن نلفت النظر إلى تشخيص حكيم اسلامي في بداية القرن الماضي لمشاكل الأمة وأمراضها ونظرته إلى المستقبل، يفيد بشيء من الغرض. وهذا الحكيم هو (سعيد النورسي). يشير النورسي في عام (1911) في الخطبة الشاميَّة: بأن الأمة الاسلاميَّة يتوقف على أعتاب القرون الوسطى في حين أن غيرنا ومنها الغربيون يسيرون نحو المستقبل والتقدُّم والازدهار.
ونورسي يرجع هذا الوضع المأساوي للمسلمين في بداية القرن الماضي إلى أسباب وأمراض نفسيَّة وخلقيَّة وسياسيَّة ودينيَّة، ويذهب إلى أن المسلمين يعانون من بعض الأمراض دمرت فيهم قواهم وألحقت بهم الذل وفرضت عليهم التخلف والتقهقر، وهي كالآتي:
مرض سياسي أو سريان الاستبداد: وهو الذي يحول التنوير إلى التزوير والأخلاق إلى العادات والصدق إلى عملة نادرة والبحث عن الحقيقة، وطغيان ثقافة الطاعة، والرياء، والتسول والنفاق.
ويرى الأستاذ الخلاص في الحريَّة الحقيقيَّة الأصيلة، لكونها:
الخاتمة:
حسب ما سبق القول بصدده، يعتبر إعادة بناء مفهومي التنوير والمستقبل في ضوء التحديات والأهداف والمشاكل التي تزخر بها المجتمعات الإسلاميَّة خاصَّة الشرق الأوسطيَّة، أمراً ضرورياً وواجبا فكريّا ومطلبا حضاريا، لكونه يتعلق بتكوين نظرة واضحة نحو المستقبل ونوعيَّة الأهداف وكيفيَّة تحقيقها وجعل التنوير محورا لتراكم الطاقات والجهود القادرة على النهوض بالواقع وخلق وعي حضاري شامل بضرورة الخروج من زمن تزاحم التعاريف وحرب المفاهيم والمصطلحات والوصول إلى اعتبار تفكير استراتيجي بإمكانه تجميع أكبر طاقة ممكنة لردم الهوة بيننا وبين الآخرين وإعادة الأمل بالقادم وجعل الشعوب الإسلاميَّة، حاضرة حضارياً، وقادرة على المساهمة والإبداع. في المدنيَّة والثقافة البشريَّة المشتركة.