شارك الدكتور وجيه
قانصو، بمداخلة عنوانها (القيم الأخلاقية في الإسلام والمجال العام) ضمن فقرة الندوات
الفكرية خلال الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين الذي عقد
في عمّان الأردن، بتاريخ 23 نوفمبر 2019.
فيما يلي نصّ المداخلة:
بدايةً سأنطلق من نقطتين منهجيّتين: النقطة الأولى أنني لن أتعامل هنا مع الأخلاق كمواعظ أو مفردات جزئيَّة لأعدِّدها، بحيث أن هذا النوع من الأخلاقيّات ينحصر في الفرد، بل أتعرض إلى الأخلاق بما يتّصل بالانتظام العام؛ أي بما له علاقة بالانضباط بالتراتبيّات بتوزيع الثروة، بأسس الأمر والنهي، بالمشروعيَّة، إلخ من هذه العناوين التي يندرج تحتها عنوان ما نسمّيه بالانتظام العام.
النقطة الثانية أنني أيضا سأتطرَّق إلى الأخلاق في
الإسلام في استقراراته التاريخيَّة؛ أي في التصوّر والتمثّلات التاريخيَّة التي
تمثّلها المسلمون من دون أن أتطرَّق إلى النصوص، أي لا أريد ان أقرأ النصوص
وأعدّدها أو أعطي اهميّتها ودلالاتها، إنّما كيف استقرَّت القيمة الأخلاقيَّة في
الحياة العامَّة في التاريخ الإسلامي. وكيف تمثَّل المسلمون القيمة الأخلاقيَّة
والسلوك الأخلاقي في داخل إطار الانتظام العام، وبالتالي لا أتعرَّض إلى النصوص
بصفتها مواد خام، إنّما اتعرَّض إلى الأخلاق الفعليَّة لا الأخلاق الافتراضيَّة.
وهذا يأخذنا إلى أن ندرس المسألة الأخلاقيَّة في إطار علاقة السلطة بالمجتمع،
علاقة المجتمع بنفسه، نظرة الفرد إلى نفسه وحقيقته، ومعنى الوجود بالنسبة إلى
الفرد.
إذن، لن أكتفي بالحديث عن العلاقة العاموديَّة التي بين الدولة والمجتمع، إنما أيضا عن العلاقة الأفقية بين مكونات المجتمع نفسه، لذلك سأبتعد عن الحديث عن النصوص بشكلٍ مباشر. سأبتعد عن التكلم عن الدلالات اللفظية، يعني دائما عندما آخذ النصوص الدينيَّة سواء كانت القرآن الكريم أو الأحاديث أو التراث المروي فإنني سأظل ضمن دائرتها اللفظيَّة. سأبتعد كذلك عن الجانب الوعظي والتقريري، والأهم من ذلك، إنني سأبتعد عن فكرة الفصل بين الإسلام والمسلمين، وهذه فكرة رائجة منذ القرن التاسع عشر لعل رائدها محمد عبدة عندما أراد أن يبرِّئ الإسلام من التهم؛ إذن هي بنظري قد تكون منهجيَّة استراتيجيَّة، لكنّها في القراءة العلميَّة هي منهجيَّة غير صحيحة؛ لأن الإسلام يقول شيئا، والمسلمون يفعلون ويقولون شيئاً آخر. بل لا بد أن نقرأ الإسلام في تمثّلاته التاريخيَّة، في استقراراته التاريخيَّة، في المؤسّسات السياسيَّة، في الانتظامات الاجتماعيَّة والمكوّنات المعرفيَّة التي نسجت انطلاقا من فهم النصوص وتأويلها وتفسيرها.
هناك أربعة نماذج تشير بشكلٍ رئيسي هي: النموذج الصوفي والنموذج الفقهي، ونموذج الأدبيات والأحكام السلطانيَّة، والنموذج الفلسفي؛ وهذه تتمثَّل بالتالي: أنّها أخلاق مفتّتة متعدِّدة متنافرة لا توجد قاعدة كليَّة لهذه الأخلاق، كما أن هذه النماذج الأربعة هي تجربة ذاتيَّة؛ الفقه بشكلٍ عام ينظر إلى التكليف الفردي أكثر مما ينظر في الانتظام العام في الاجتماع، وحتى الفلسفة التي تركّزت فكرتها على – لو أخذنا الفارابي الذي اعتبر الفرد أساس المدينة- أن الفرد هو الذي يقوِّم المدينة لا العكس، وبالتالي دائما النظر في صفات الحاكم وليس في صفة الحكم، والدائرة الفقهيَّة كما ذكرت، والأدبيّات السلطانيَّة التي اعتبرت الأخلاق بأنها صفات استثنائيَّة في الحاكم؛ أي يوجد شخص في الحكم يتمتَّع بصفات استثنائيَّة وبالتالي هذه المفردات الأخلاقيَّة هي أشبه ما تكون بأخلاق طوعيَّة لكنّها لا تتّصف بصفة العمق.
السمات الثلاث لهذه التأسيسات المعرفيَّة في فهم الأخلاق وفي ربطها بالسلوك في المجال العام هي:
السمة الأولى أنّها أخلاق جزئيَّة: بمعنى أننا نأخذ كل صفة أخلاقيَّة وحدها؛ الإحسان، حسن الجوار،… إلخ وهي أقرب إلى مواعظ، أقرب إلى مفردات لكن لا توجد قاعدة كليَّة تندرج تحتها هذه المفردات وتشكِّلُ مدخلا إلى الانتظام العام، خاصَّة أنها ارتبطت أو أخذت دلالة شرعيَّة أي أن مقصدها بات أخرويّا ولم يعد مقصدها النهائي دنيويّا بمعنى انتظام الحياة العامَّة.
السمة الثانية: هي فرديَّة، أي لا يوجد سلوك عام، وعندما يمارسها الفرد يمارسها كفرد، فنحثّ الحاكم على أن يمارس العدالة، نحثّه على أن يمارس الإحسان، لكنّه لا ينطلق من قاعدة كليَّة في هذا المجال، بالتالي حتى الأفراد لا يمارسون الأخلاق في انضباطهم الأخلاقي إلا من باب الباعث الداخلي، تماما مثل فكرة الأخلاق التي نظَّر لها الفلاسفة، هي عبارة عن مَلَكة، إنّها أي المَلَكة هي القوَّة الباعثة في النفس. إذن هي مجالها فردي لم تأخذ صفة عامة، فعندما أكون أخلاقيّاً أمارسها بصفتي الفرديَّة الخالصة.
هذا لا يعني أنّه لا يحصل صلاح في المجتمع، لكن هذا الصلاح بمعنى أنّها خصال تتكرَّر لا بمعنى أن الفضيلة أو القيمة الأخلاقيَّة اتّخذت قاعدةً كليّة وقاعدةً عامَّة لينتظم فيها المجال العام. بمعنى أنّنا لم نبدأ في التنظير لفكرة القيمة الأخلاقيَّة بصفتها إطارا ومنطلقا للانتظام العام، بل انطلقنا من الخلاص الفردي مثل ابن باجة في (تدبير المتوحّد) اعتبر أنّ المدينة الفاضلة تتحقَّق عندما يصبح الناس فضلاء، يعني إذا تكرَّر الفضلاء في المدينة وأصبحوا جميعا فضلاء، تصبح المدينة فاضلة، إذن هي مجموع أفراد فضلاء وليس صفة المدينة، وبالتالي لا يوجد تنظير أساسي لقضيَّة المدينة وفكرة المدينة.
السمة الثالثة أنّها أخلاق غير ضروريَّة ولا تكتسب صفة الضرورة؛ لأنها سلوك فردي وباعثها ذاتي، بالتالي غير قابلة للعقلنة وغير قابلة لأن تأخذ قاعدة كليَّة ذات سمة ضروريَّة تلزم الجميع بها (كمثال المواردي ميَّز بين الأخلاق العامَّة وأخلاق الملوك؛ الملوك لهم صفات وسلوكيَّات تختلف عن أخلاق العامَّة، هم استثنائيّون بالتالي أخلاقهم لا بد أن تكون استثنائيَّة). إذن هي دائما عندما نرجعها إلى الذاتيَّة والفرديَّة تصبح نوعاً ما أخلاقا اعتباطيَّة، بمعنى أنّها مبعثرة ولا توجد قاعدة كليَّة تشكِّل أساسا للانتظام العام.
إذن، السؤال لماذا حصل هذا؟ وما الذي أوصلنا لتصير الأخلاق ضمن قاعدة الوعظ الفردي أو الانضباط الخاص، ولا تأخذ صفة العموم، أو تتحوّل إلى أخلاق عامة محكومة بقواعد كليَّة؟ لأن الأخلاق ببساطة كانت تتحرّك خارج الانضباط العام. بمعنى لم يكن الانتظام العام أي انتظام المجتمع وكل ما يتعلّق بالمسائل العامَّة، لم تكن الأخلاق مندرجة فيها، وبالتالي كانت الأخلاق خارج هذه الدائرة، مستقلَّة ومنفصلة عنها، لأنّها كذلك لم تكن من ضرورات الانتظام العام. هي من ضرورات السلوك الفردي، لنقل من ضرورات سلوك الحاكم لكنها ليست من ضرورات الانتظام العام الاجتماعي، أو الانتظام السياسي.
حصل فصلٌ بين المجال السياسي والمجال الاجتماعي، هذه أول إشكاليَّة، أي أن السلطة العليا لم تعد من شؤون المجتمع ولم تعد من شؤون الفرد، أي خارج دائرة نشاطه اليوميَّة والحياتيَّة.
ثانيا، فكرة أن السلطة قدر، وقد بدأت هذه الفكرة منذ زمن الأمويين، وعند العباسيين صارت إرادة الخليفة هي إرادة الله نفسها، بالتالي أصبحت جزءا من ضرورات الكون وجزءا من انتظام الكون، فكما يدير الله الكون، وذلك علة نحو المماثلة، فإن الخليفة أو الحاكم أو السلطان يدير المجتمع.
عندما نقول إن هذه المسألة قدر، هذا يعني أنها غير قابلة للتفكير أو للعقلنة، وأن تكون قدرا يعني أن السلطة مشخصنة بالفرد الحاكم، وعندما نشخصن السلطة لا نعود نفكر بمزايا السلطة أو الحكم بل نفكِّر فقط بمزايا الحاكم، لهذا كل الأدبيّات السلطانيَّة تتحدث عن صفات الحاكم وخصال الحاكم، حتى الفلسفة الإسلاميّة لم تستطع أن تنظِّر (مع أن أرسطو كان له الكثير من النظريّات في السياسة ونظّر لفكرة للنظام) لكن هذا الفكر للأسف لم يتسرَّب إلى مجال الفكر الإسلامي، بحيث أن الأخلاق لم تدخل في دائرة التنظير في المجال العام والحياة العامة.
وقد اتّخذ التنظير حالة الوعظ- وكما قلت بأنه طالما هي تتعلّق بالفرد فلا تتّسم بصفة الضرورة؛ أي أنها إرادة جزئيّة تحكم إرادة جزئيّة أخرى- بما أنها كذلك فهي إرادة اعتباطيَّة. والحكم هنا لا يكون من باب المشروعيَّة بل من باب الإكراه، لأنه الذي سار في مفهوم مشروعيَّة السلطة مفهوم غلبة المتحكِّم، إذ أنّ الأدبيّات السلطانيَّة صارت تمجّد السلطة والحاكم بناء على مفهوم عصمة الحاكم.
المسلمون عموما ذهبوا إلى مفهوم عصمة الحاكم لكنهم تفاوتوا بالدرجة، ومن نفس المبدأ كلهم اعتبروا أن الحاكم لا بد أن يتمتّع بصفات استثنائيَّة، وبعضهم مثل تعتقد بأنّ الحاكم لا بد أن يكون معصوما، لكن حتى الأدبيّات المختلفة ستجد فيها أنّ الحاكم شخص استثنائي وهو شخص مصطفى من الله، إذن كلهم يتّفقون في النوع ويختلفون في الدرجة.
سادت فكرة سلطة المتغلّب في كل الأدبيّات حتى أدبيّات المواردي وابن خلدون، أي لم تكن السلطة مجال تفكّر، إنّما حاولوا معرفة ما هو الموقف منها. الأحكام السلطانيّة كان كل غرضها أن تقول إن هذا واقع لا يمكن تغييره ولا يمكن تغيير هذا الواقع بالشروط الطبيعيَّة بل بحدوث معجزة فقط. وبما أنّها كذلك فتغيير الواقع ليس بيدنا، فلا بد أن تكيَّف مع هذا الواقع. من هنا بدأت تظهر أخلاق الطاعة، وهذا جعل المنظومة الأخلاقيَّة تحت هذا الإطار، ولم تستطع أن تخرج من هذه الدائرة، وهو الأمر الذي أدّى إلى فصل السلطة والانتظام العام والقيمة الأخلاقيَّة؛ يعني السلطة في تداولها وفي فهمها استقلَّت عن القيمة الأخلاقيَّة.
أيضا، السلطة صارت خارج مجال التدبُّر في المجتمع وبالتالي صارت الأخلاق فرديَّة كما قلنا سابقا ولم تعد جزءا من مجال التفكير ضمن المجال العام، وبالتالي فقدت السلطة صفة العموم؛ هي شخص يأمر شخصا آخر، وسبيل الإلزام هو الإكراه لا الباعث الباطني والتطوع الذاتي، وهذا ما منع من تشكُّل فلسفة الأخلاق في الإسلام. إلى الآن لا توجد فلسفة أخلاق، ففلسفة الأخلاق لا تتحرَّك في دائرة القيمة الأخلاقيَّة بذاتها، بسلوكها الذاتي، إنّما فلسفة الأخلاق تتحرّك في دائرة الانتظام العام.
نحتاج إلى أن ننقل الأخلاق من السلوك الفردي حتى يصبح سلوكا عاما، وعندما يصبح سلوكا عاما، معنى ذلك، إنني أنا الفرد بحاجة لأن أصبح كائنا عاما. أنا ما زلتُ أمارس الأخلاق بصفتي فردا (لكنّها ما زالت مفردات مفتّتة وجزئيَّة ومبعثرة هنا وهناك ألتقطها من النصوص ثمّ أسردها وأعمل بها) لكن إلى الآن لم يتولَّد الكائن العام.
الكائن العام يعني الإنسان المنخرط في الشأن العام، الإنسان المعني بأخذ القرار، والإنسان العام لا تعود العلاقة بينه وبين أقرانه علاقة الحميميَّة؛ يعني علاقة القربى والصداقة، لهذا يقال إنَّ العلاقة في المجال العام هي علاقة بين غرباء، أي أنهم وبدون علاقات حميمة يلتقون على مبادئ عامَّة. ولكي أفكِّر وأصبح كائنا أخلاقيّا عامّا، لا بد أن أعمل على إنتاج المجال العام.