” التنوير وصناعة المستقبل” كان عنوان الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربيَّة للتربويِّين
التنويريِّين الذي انعقد في عمّان – الأردن بتاريخ 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بالتزامن
مع إعلان عمّان عاصمة للتنوير 2019.
في كلمة هي الأولى بعد افتتاح المدير التنفيذي للرابطة، الأستاذ عبيدة فرج الله، لفعاليات اللقاء بكلمات ترحيبيَّة وتقديم لبرنامج وفعاليّات الاجتماع السنوي الرابع للرابطة، بالإضافة إلى عرض فيديو تعريفي بالرابطة ونشاطاتها ومشروعاتها، أعرب رئيس مجلس الأمناء الدكتور المحبوب عبد السلام عن ترحيبه بضيوف المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة وعاصمتها عمّان المتوّجة بعاصمة التنوير للعام 2019، لافتا إلى أنّها المدينة التي شهدت ميلاد الرابطة لأوَّل مرَّة، ومؤكّدا أنَّ الرابطة وهي تعبر نحو عامها الرابع تتطلَّع لمزيد من الشمول والاتِّساع، لتضمّ مختلف العاملين في حقل التنوير، من التربويِّين أساتذة الجامعات والمعلِّمين في مختلف المراحل، ثمَّ الباحثين المهمومين بإضاءة عتمة الطريق نحو تحوُّل حضاري حقيقي وحداثي، ثم قادة العمل التطوعي المدني والعاملين فيه الذين ينشدون كرامة المواطن من العيش الكريم والفكر القويم، جميعاً في تعارف واعتراف وفي تكاملٍ وتعاون.
الجلسة الفكريَّة الأولى: (الحقوق والحرّيّات في الإسلام) برئاسة الدكتور يامن نوح
في مقدمة الجلسة أشار الدكتور يامن نوح من مصر إلى أنَّه لا يمكن معالجة قضايا التنمية في المنطقة بمعزل عن مسألة التجديد الديني، ومن هنا تأتي راهنيَّة وحيويَّة مشروع الرابطة؛ إذ أنّها تحاول أن تجسِّر هذه الفجوة بين الفكر والمجتمع، مؤكّدا أنَّه آن الأوان لأن تتحوَّل مسألة التجديد الديني من مجرَّد إشكاليَّة نظريَّة تتمّ معالجتها في الصالونات والمحافل الفكريَّة والثقافيَّة والأكاديميَّة فقط، على أن تخرج خارج هذه الأروقة، وتتحوَّل إلى شيءٍ يتحرّك على الأرض.
وفي المداخلة الأولى تحت عنوان (القيم الأخلاقية في الإسلام والمجال العام)، تعرّض الدكتور وجيه قانصو من لبنان، إلى الأخلاق بما يتّصل بالانتظام العام؛ أي بما له علاقة بالانضباط بالتراتبيّات بتوزيع الثروة، بأسس الأمر والنهي، بالمشروعيَّة، إلخ من هذه العناوين التي يندرج تحتها عنوان ما نسمّيه بالانتظام العام، متحدّثا عن العلاقة العاموديَّة التي بين الدولة والمجتمع، كذلك عن العلاقة الأفقية بين مكونات المجتمع نفسه.
وأكّد الدكتور قانصو، أنَّنا نحتاج إلى أن ننقل الأخلاق من السلوك الفردي حتى يصبح سلوكا عاما، وعندما يصبح سلوكا عاما، معنى ذلك، إنني أنا الفرد بحاجة لأن أصبح كائنا عاما. موضحا أنَّ الكائن العام هو الإنسان المنخرط في الشأن العام، الإنسان المعني بأخذ القرار، والإنسان العام لا تعود العلاقة بينه وبين أقرانه علاقة الحميميَّة؛ يعني علاقة القربى والصداقة، لهذا يقال إنَّ العلاقة في المجال العام هي علاقة بين غرباء، أي أنهم وبدون علاقات حميمة يلتقون على مبادئ عامَّة. ولكي أفكِّر وأصبح كائنا أخلاقيّا عامّا، لا بد أن أعمل على إنتاج المجال العام.
وفي السياق نفسه سلَّط الدكتور رحيِّل الغرايبة من الأردن في مداخلته التي حملت عنوان (الحقوق والحرّيّات في الإسلام)، الضوء على معالم الصورة لنظريَّة الإسلام في مجال الحقوق والحرّيَّات، لافتا إلى أنّ مشيئة الله في هذا الوجود الإنساني أنه قام على مسألة التنوّع والتعدّد والاختلاف بالأفكار والاجتهادات والإنجازات والآراء والأديان والمذاهب بين البشر وهي تمثِّل سنَّة وقانونا من قوانين الكون والحياة لا يمكن نفيه او القضاء عليه، مشيرا إلى أن التصور الإسلامي لمنظومة الحقوق والحريات الإنسانية ينبثق من مجموعة من المبادئ العامة؛ منها أنّه يقوم على فكرة الأسرة البشريَّة الواحدة، والتكريم الآدمي، وقضيَّة الحرّيَّة، ومفهوم العدالة الذي قامت عليه موازين الكون ومقاييس الحياة، ومفهوم السلام، ومفهوم تلازم الحقّ بالمسؤوليَّة، وفكرة الموازنة بين الحقّ الفردي والحقّ العام.
وأكّد كذلك، أنّنا نحتاج في المنطقة إلى بيئة مفعمة بالتعاون والتكامل والتكافل، وإلى منظومة قيم جمعيَّة ترتكز على احترام الآخر واحترام رأيه وفكره ووجوده، ومنظومة من التشريعات التي تحفظ الحقوق وتعرف الحدود الدقيقة بين الأفراد والجماعات، ونظام عدالة يحمي هذه الحقوق ويطبّق القانون ويحسم مادة الاختلاف والنزاع.
وفي المداخلة الثالثة (نظريَّات التغيير في الفكر الإسلامي وعصر الشبكات)، قدّم الدكتور محمد أبو رمان من الأردن، عرضا لمدارس الإصلاح في الفكر الإسلامي المعاصر وفي مقدّمتها مدرسة الإصلاح الديني، لافتا إلى أنَّ كل مدرسة من هذه المدارس ارتبطت بحقبة تاريخيَّة وبتحدّيات خاصَّة. كما تطرّق إلى موضوع عصر الشبكات؛ مؤكّدا أن بعض العوامل مثل الربيع العربي، وظهور وبروز انتهاء الحرب الباردة، وبروز فشل الدولة العربيَّة القُطريَّة في أغلب المشاريع التي قامت بإقامتها، وتزاوج الاستبداد والفساد تضعضع شرعيَّة الدولة القُطريَّة العربيَّة، كلّها أدّت إلى ولادة مرحلة جديدة لم تتّضح معالمها بعد.
كما تساءل الدكتور أبو رمّان: هل يمكن إعادة الجمع ما بين خطاب الإصلاح الديني وكفاحيَّة الدعوة الإسلاميَّة؟ بمعنى أن يكون هناك هذا الخطاب التنويري لا ينفك ولا ينأى بنفسه عن العمل السياسي وعن مواجهة الاستبداد وعن قيادة المرحلة القادمة للمجتمعات والأمّة حتى يستطيع أن يكون ضمن شؤونه.
أمّا الدكتور محمد عبد الوهاب رفيقي، فقد أشار في مداخلته المعنونة بـ(حرِّيَّة الفرد في الإسلام، أي قراءة وأي تجديد متاح؟)، إلى أنَّ إشكاليَّة الحرّيّات الفرديَّة وموضوع الحرّيّات الفرديَّة، المطروح اليوم داخل مجتمعاتنا الإسلاميَّة هو ليس إشكالا دينيّا محضا، بل إن هناك إشكالات أخرى وأهمها الإشكال الثقافي، والصراع الحقوقي بين سلطة الفرد وسلطة الجماعة، بالإضافة إلى الإشكال السياسي حيث انتقال مجتمعاتنا من دول تقليديَّة سلطانيَّة إلى منطق الدولة الحديثة وإلى منطق الدولة العصريَّة وإلى منطق مفهوم المواطنة، وبمفهوم الدولة الحديثة وأيضا يورث هذه الإشكاليّات المتعلّقة بالحرّيّات الفرديَّة.
وأكّد أنّ المجتمعات الإسلاميَّة اليوم، يعيش فيها الفرد بشكل من أشكال التمزّق، بحكم أنّ هذه المجتمعات تتجه نحو نموذج ليبرالي فرداني دون وجود تصوّر ثقافي فرداني عند الأفراد أنفسهم لا داخل المؤسّسات التعليميَّة التي لا تزال حتى اليوم تطغى فيها صورة الجماعة، وأوصى بأن تقوم التربية اليوم على استراتيجيّات تنطلق من الفرد وتنتهي إلى الفرد؛ لأنّ معاكسة التطوّرات التاريخيَّة التي نعرفها اليوم والتحوّلات الاجتماعيَّة المتّجهة نحو الفردانيَّة والتشبّث بالتربية التقليديَّة على القيم الجماعاتية، ستفقد الأجيال القادمة المرجعيّات الأخلاقيَّة الضروريَّة لضبط السلوك والضمير الفرداني.
❏ الجلسة الفكريَّة الثانية: (التعليم الديني والقيم الإنسانيَّة) برئاسة الأستاذ صلاح الدين الجورشي
استهلت الجلسة بمداخلة الدكتور عبد الجبار الرفاعي من الأردن تحت عنوان (التعليم الديني من التلمذة الى النقد وإعادة البناء) والتي اعتمدت على تجربته في التعليم التي استغرقت 40 عاما أو أكثر من عمره، تلميذا ومدرّسا. حيث قدَّم فيها تمهيدا مختصرا عن الحوزة كمؤسّسة وكيف يستقي رأس المال الرمزي والمادي للحوزة من مجموعة روافد والفرق بينها وبين مؤسّسات التعليم الديني الأخرى، ثمّ انتقل للحديث عن رؤيته الخاصَّة لإعادة بناء نظام التعليم الديني، لافتا إلى أنّه ثمّة مشكلة بنيويَّة تاريخيَّة عميقة في التعليم الديني في الإسلام، أو لنقل في بناء العلوم في الإسلام. كيف تشكّلت علوم ومعارف الإسلام؟ أو كيف أصبحت السنّة بديلا للقرآن، وكيف كانت أصول الفقه وعلم الكلام أدوات أساسيَّة في سدّ باب التفكير أو الأفق الجديد للتفكير في الإسلام؟
كما تناول الدكتور الرفاعي أبرز المشكلات البنيويَّة للتعليم الديني بالشرح والتحليل، ومنها وفقا لرأيه: ضمورُ الإسلام القيمي وتسيّد إسلامُ علم الكلام والفقه، غياب علم الأديان، ضعف الاهتمام بمقارنة الأديان، ندرة الحسّ التاريخي في دراسة النصوص المقدّسة.
وأشار الدكتور ليث كبة من العراق في مداخلته (خصوصية القرآن في برامج التوعية والتربية والتنوير) إلى أن الدين سقط بين يدي الشياطين والجهلة، وإذا ما كان هناك عمل حقيقي من قبل فاعلين ومبادرات من هذا النوع لاسترجاع الدين، واسترجاع القوّة الإيجابيَّة للدين، لافتا إلى أنه هناك جدليَّة ما بين فهم الوعي والوعي، كلما ازداد وعي الإنسان كلما ازداد فهمه للوعي، ولهذا أي منهجيَّة تسعى لأن تقيِّد هذا الوعي بوعي بدائي أصغر من زمننا يضيِّق العدسة لفهم الوعي بدلا من توسيعها لفهم الوعي. فلن يقدر أحد على أن يقود عمليَّة التنوير عند المسلمين بدون الاعتماد على القرآن كما يريد القرآن.
وقال الدكتور كبة، إذا اعتمدنا منهجيَّة معاصرة، تعتمد رؤية كونيَّة وتعتمد القرآن سنكون قادرين على إحداث التنوير، أمّا محاولة التنوير من داخل المنظومات التراثيَّة فهي محاولات بائسة فاشلة، بمعنى أنه ونحن على أبواب ولادة جديدة لهذا يجب أن نمهّد لهذه الولادة الجديدة، ونكتفي بإعطاء مخدرات لشيءٍ هو أصلا يلفظ أنفاسه الأخيرة، أعتقد يجب أن ننتقل في وعينا وتفكيرنا إلى القرن الواحد والعشرين.
وأكد الدكتور سمير بو دينار من المغرب في مداخلته التي تحمل عنوان (الإتمام القيمي: نحو مقاربة فاتحة لأفق التعليم الديني) أنّ أزمة التعليم الديني ماثلة في عالم المسلمين بشكلٍ عام، ودلائلها متعدّدة واضحة على الأقل في مجالات السلوك والوعي العام، لأنّ التعليم الديني توقّف عن إنتاج المعنى الذي يسهم في تطور حركة التاريخ، وأهم أدواره هذه في مستوى إنتاج المعنى هو أن يؤهّل مخرجاته بشرا وأثرا من خريجين وأفكار لتمثّل روح العصر، أسئلة العصر، فرصه وتحدّياته تمثّلا صحيحا يمكّن من الانخراط في هذا العصر وهو الذي يعتبر جوهر فكرة الحداثة نفسها، القدرة على الإبداع والتمكّن من أداء هذا الدور.
وتحدّث الدكتور بودينار عن مقاربة الإتمام القيمي التي تتلخّص في بناء منظومة قيمية يمكن من خلالها استيعاب واستثمار المقاربات القيمية المتعدّدة، ولفت إلى أنّ هذه القيم في الواقع، هي المعبر التي يمكن للدين من خلالها أن يمضي من الماضي إلى المستقبل.
أمّا الدكتور محرز الدريسي من تونس، فقد تناول موضوع (مادة التربية الإسلامية في فضاء الإصلاح التربوي)، مستعرضا نموذج التجربة التونسيَّة في هذا المجال، لافتا على أنّ التحوّل في الأشكال والمظاهر والجوانب الشكليَّة ممكن جدا، لكن إحداث تغيير أساسي هو ما سيقدّم لنا مخرجات في مادة التربية الإسلاميَّة وفي بقيَّة المواد؛ أن تتميَّز بحضور المواطنة واستحضارها، واستحضار قيمة الاستقلاليَّة الشخصيَّة، استحضار قيمة الفرديَّة، استحضار قيمة الحرّيَّة، قيمة الكرامة، هذه القيم التي نطمح إلى تنفيذها في سلوكيّات، أعتقد هي التحدّيّات الكبيرة.
وأشار إلى أن كل العوائق الأخلاقيَّة التي تعانيها المجتمعات في منطقتنا تتطلَّب فعلا أن تكون التربية الإسلاميَّة ليست مجرَّد مادة مدرسيَّة، وإنما الارتقاء بهذه المادة إلى أن تتحوّل إلى خلق ديناميكيَّة كاملة، يعني أن تتحوّل المدرسة في أي منطقة من المناطق العربيَّة إلى فضاء للجدل، فضاء للنقاش وليس فقط فضاء لإنتاج التلميذ المتمثّل للأوامر والتلميذ الطوعي. لافتا إلى أنّ بداية زرع البذور الأساسيَّة للتمرَّد على كل ما هو تقليدي، على كل ما هو فيه جانب تجريدي. هو جعل التربية تفاعليَّة وتشاركيَّة بين الطلبة وبين المدرّسين، وهذا يعتبر بطبيعة الحال منحى حركي فيه قيم أساسيَّة داخل مدارسنا، وهذا هو المطلوب كجوهر من جواهر التنوير.
❏ الجلسة الفكريَّة الثالثة: (التنوير وصناعة المستقبل) برئاسة الدكتور المختار بنعبدلاوي
استهلت الجلسة بمداخلة الدكتور الصادق الفقيه من السودان تحت عنوان (أسئلة التنوير.. مفاتيح المستقبل) مشيرا إلى أنَّ قضيَّة السؤال الذي يستصدر الإجابة مباشرة لا يخدم قضيَّة المعرفة ولا يخدم قضيَّة التنوير، لكن السؤال القَلِق الذي يذهب ويبحث باستمرار عن تجدّد الإجابة، يقتحم المستقبل ويسأل باستمرار عن تجدُّد الإجابة، هذا ما يسعى إليه التنوير، وما يسعى إليه الفكر، فأقضية الفكر تُقضى دائما بأسئلة مستمرَّة؛ أسئلة متجدِّدة، أسئلة لا تبحث عن إجابات مباشرة، إنما تخلق هذه الإشكاليّات بشكلٍ مستمرّ حتى تستولد إجابات صالحة للزمان والمكان.
وقال الدكتور الفقيه إنّ العالم الضرورة هو راهن ينبغي أن يجيب عن أسئلة في وقتها، وأن نجد فقها لقضايا الحاضر في وقت الحاضر، ولكن هناك قضايا كثيرة جدا متعدّية ينبغي أن نبحث لها كذلك عن أسئلة متعدّية في المستقبل، وهذه قضيَّة الدين. الدين أصلا، لأنّه صالح لكل زمان ومكان. لا يصلح بفكرٍ واحد، ولا يصلح بإجابات واحدة، وإنما ينطلق من عالم الضرورة. لافتا أنّ الجغرافيا تغيِّر طبيعة الأسئلة؛ فقضيَّة تغيير الزمان والمكان ضروريَّة جدا في عمليَّة طرح الأسئلة المتعدّية، طرح الأسئلة الإشكاليَّة التي تبحث عن إجابات في كل زمان ومكان.
رئيس مجلس أمناء الرابطة الدكتور المحبوب عبد السلام من السودان، تحدّث في موضوع (التنوير إرث المستقبل) مشيرا إلى سعي الرابطة الحثيث إلى إنجاز تعريف مفاهيمي للتنوير أو دليل للتنوير، خصوصا أنّ كلمة التنوير نفسها لا تبدو كلمة إيجابيَّة لكثير من الناس في مجتمعاتنا إذ ارتبطت دائما بالحركة الماسونيَّة.
وقال الدكتور عبد السلام، إنه يستشعر تطورا نوعيّا بعد الثورة الصناعيَّة الأولى والثورة الصناعيَّة الثانية وثورة الاتّصالات التي كذلك تطوّرت بمفهوم الرأي العام الذي أشار إليه كانط، وأضاف أنّه تحوّل وجودي يجعل القضايا الإنسانيَّة، تكاد تكون قضايا واحدة، وذات الحجج التي تستخدم الآن لرفض التنوير، رفض العقل الديني، كانت تستخدم كذلك في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر في أوروبا لمنع هذا النقد، وكما أشرنا قبل قليل أنّ محاولات النقد كذلك لا تنحصر بأنّها قضيَّة فكريَّة محضة، لكن هي قضيَّة تمسّ السلطات وتمسّ العلاقات السياسيَّة والعلاقات الاقتصاديَّة.
أما المداخلة الثالثة فكانت للدكتور محمود حيدر من لبنان وحملت عنوان (في وجوب التنظير من أجل هندسة معرفيَّة لتفكير عربي إسلامي مفارق) وناقش فيها إمكانيَّة التأسيس لمنهج في المعرفة يفتح الآفاق على استيلاد الأفكار وسط عالم مكتظِّ بالمفاهيم المستعادة ومسكون بمعضلة التكرار والتقليد، على فَرَضيَّة التنظير بوصف كونه ممارسة تفكيريَّة تتوخى تنشيط حركة الفكر، واستكشاف عِلَلها، وتظهير الأجوبة على الاسئلة المتعلِّقة بشأنها.
وأكّد الدكتور محمود حيدر، أنّه لا مناص لمجتمع التفكير في بلادنا العربيَّة والاسلاميَّة إلا أن يتحرَّر من غواية مفاهيم استورثها في غفلة من زمن، ثم استيقنها ليبتني نظامه المعرفي. كانت ثنائيات كمثل العقل والوحي، والإيمان والإلحاد، والغيب والواقع، والدين الدنيا، والحادث والفكرة أشبه بحُجُب شيَّأت العقل وأوْهَنَت الفكر، ثم حالت بين المثقف واستقلاله الفكري حتى أسكنته كهف الغربة.
وفي مداخلته تحت عنوان (التنوير وصناعة المستقبل؛ إشكاليَّة المفهوم) تناول الدكتور أبو بكر علي كارواني من كردستان العراق إشكاليَّة مفهوم التنوير، لافتا إلى أنَّ إشكاليَّة المصطلح أو المفهوم في واقع المسلمين وأممهم، واقع، يدل على ارتباك المشهد الثقافي وعدم القدرة على إنتاج المفهوم للتعبير عن الواقع الفكري والديني والسياسي والاقتصادي والحضاري.
وخلص كارواني إلى أنّ إعادة بناء مفهومي التنوير والمستقبل في ضوء التحديات والأهداف والمشاكل التي تزخر بها المجتمعات الإسلاميَّة خاصَّة الشرق الأوسطيَّة، أمراً ضرورياً وواجبا فكريّا ومطلبا حضاريا، لكونه يتعلق بتكوين نظرة واضحة نحو المستقبل ونوعيَّة الأهداف وكيفيَّة تحقيقها وجعل التنوير محورا لتراكم الطاقات والجهود القادرة على النهوض بالواقع وخلق وعي حضاري شامل بضرورة الخروج من زمن تزاحم التعاريف وحرب المفاهيم والمصطلحات والوصول إلى اعتبار تفكير استراتيجي بإمكانه تجميع أكبر طاقة ممكنة لردم الهوة بيننا وبين الآخرين وإعادة الأمل بالقادم وجعل الشعوب الإسلاميَّة، حاضرة حضارياً، وقادرة على المساهمة والإبداع. في المدنيَّة والثقافة البشريَّة المشتركة.
واستعرض الدكتور المختار بنعبدلاوي من المغرب، في المداخلة الأخيرة تحت عنوان (التنوير بين التجربتين الغربيَّة والعربيَّة: أين العطب؟) جهود كانط في الإجابة عن سؤال ما هو الأنوار عبر مقالته الشهيرة؛ لافتا إلى أنّ اختياره لكانط جاء لسببين؛ الأول أنه فيلسوف مؤمن، ثانيا لأنّه الفيلسوف الذي تحوّل معه فعل أو حالة التنوير من نقاش عام إلى مشروع محدّد المعالم. طبعا، هناك من يقول فلاسفة العقد الاجتماعي، وأتفق، لكن لا أريد أن أدخل في التفاصيل والاختلافات التفصيلية لعامل الوقت.
وأكّد الدكتور بنعبدلاوي أنَّ الظواهر الميتافيزياقية تتميّز بأنها متعالية على الزمان والمكان، ومن هنا فهو يعلّق النقاش حوله، يمعنى لا أصدر أحكاما، لأنّي إذا أصدرت احكاما بصفتها مقدّس سوف تفجّر المجال العمومي، ومن هنا يجب أن نتحاور بعقول حول المشترك، ويجب ان نعلق أو نترك الحريَّة الفرديَّة للنقاش في كل ما هو متعالٍ علينا لأننا لا نمتلك أدواته، ولا نستطيع الحسم فيه، ومن هنا كانط يميّز بين المعرفة ما نضبطه كميّا ونحدّده بشكلٍ واضح وبين مجال التفكير الذي هو مجال التأمّل والتحليل الذي هو متاح بطبيعة الحال.
❏ فقرة العروض التقديميَّة
تميّز الاجتماع السنوي للرابطة الذي عقد في عمَّان هذا العام بفعاليَّة حيوية هدفها تسليط الضوء على الجهود العمليَّة التطبيقيَّة المبذولة على أرض الواقع للتنوير على المستويين الفردي والجماعي عبر مؤسّسات المجتمع المدني، إذ تضمَّنت الفعاليّات تقديم عروض تقديميَّة بأسلوب TEDx، حيث منح كل مشارك ما مدته 10 دقائق لوصف تجربة مؤسّسته أو مبادرته أو مشروعه أمام نخبة من ممثّلي مؤسسات تربويّة وتنويرية وثقافيَّة وعدد من المفكّرين والفاعلين في المجتمع المدني من مختلف الدول العربيَّة.
وقد شاركت في فقرة العروض التقديميَّة المؤسسات التالية:
منصَّة فتبيّنوا من الأردن/ المهندسة بيان حمدان:
عرّفت حمدان بالمؤسّسة التي تمثّلها والتي هي منصة مستقلَّة متخصَّصة في مجال التحقق من الأخبار انطلقت عام 2014م، وتهدف إلى تنقية المحتوى العربي على الإنترنت من الإشاعة والأخبار الكاذبة والخرافات. لتكون مصدر أساسي للقرّاء في العالم العربي لتمييز الحقيقة من التزييف.
وذكرت حمدان، أنَّ المنصَّة التي اعتمدت مؤخّرا من الشبكة العالميَّة للتحقُّق من الأخبار يتابعها نصف مليون مستخدم على الإنترنت، 82% منهم من العالم العربي، وأنّ فيديوهات المنصّة على يوتيوب حظيت بأربعة مليون مشاهدة، فيما يحقِّق الموقع أكثر من 100 ألف زيارة شهريّا.
مجموعة الإحياء والتجديد من السودان/ الأستاذ المقداد الهجان:
عرّف الأستاذ المقداد الهجان بالمجموعة، وذكر أنها مجموعة شبابيَّة نشأت في العام 2002، مرّت بمراحل تطوّر مختلفة، انتهت إلى مشروع إصلاحي غرضه النهضة بالكلمة والفعل، والتحرّر من قعر الجهل والتخلف والجمود والماضوية.
وأكّد الهجان، أنَّ ظروف السودان وخصوصا بعد قيام الثورة فيها مؤخّرا، تحتاج إلى المزيد من الوعي، لهذا تركّز المجموعة على بثّ الوعي ومحاولة إصلاح أفكار الجيل الجديد، لأنَّ الثورات العربيَّة المطلبيَّة تسبق الأفكار، وذكر أن المجموعة حاليا تركّز على قضيتين أساسيتين خلال هذه الفترة هما: مسألة التعليم الديني، ومسألة المرأة عبر إنشاء جمعيّات نسائيَّة شبابيَّة.
جمعيَّة التجديد الثقافيَّة من البحرين/ الأستاذ عيسى الشارقي:
وهي مؤسَّسة ثقافية عربية، إنسانية التوجه تأسست في 2 فبراير 2002م تحت شعار “نحو منهاج إصلاحي جديد”، مقرها مملكة البحرين، تعمل لتحقيق هدفها السامي وهو “تمكين الأمة” العربية والإسلامية عن طريق إثراء العقل العربي والمسلم بتقديم معالجات فكرية وثقافية عميقة تشخص الداء وتصف الدواء لتأخذ الأمة مكانتها التي تليق بها في مقدمة ركب الإنسانية.
وقد قدّم العرض مدير الجمعيَّة الأستاذ عيسى الشارقي بشكل مبتكر، إذ استخدم الشواهد من السينما (فيلم سيد الخواتم) وقصّة السامري من القرآن الكريم لإيصال فكرة التجديد الديني والتنويري والتزامهم بهذه المبادئ.
فرقة الفرعي الموسيقيَّة من الأردن/ الفنّان طارق أبو كويك:
فرقة الفرعي الموسيقيَّة هي المشروع الفردي للفنّان طارق أبو كويك الذي يعتمد فيه على أغاني الراب والجيتار، إذ يتعامل مع الجيتار بوصفه آلة غير فرديَّة على عكس السائد.
يقول طارق أبو كويك وهو موسيقي ومؤلف كلمات أغاني، ومختص في الراب، إنّه يكتب كلماته ويجرّب فيها أن يقول وجهة نظره في الدولة المدنيَّة، وتعاملنا مع الدين، ومشاكل الشباب في المجتمع، ويسعى من خلال أغاني الراب أن يؤثّر في الشباب ويطرح الأسئلة. كما قام الفنّان الأردني بعرض أغنيته “المدينة الحديثة” على الحضور الذين تفاعلوا معه.
مؤسَّسة أديان من لبنان/ الأستاذ أحمد ناجي:
أديان، مؤسّسة تُعنى بالتنوّع، والتضامن، وكرامة الإنسان. تعمل أديان، كمنظّمة غير حكومية مسجّلة في لبنان، محليًّا، وإقليميًّا، ودوليًّا، للتعدّدية، والمواطنة الحاضنة للتنوّع، والمناعة الاجتماعية، والتضامن الروحي، من خلال مقاربات سياقيّة في حقول التربية، والإعلام، وصنع السياسات، والعلاقات الما بين ثقافية، والما بين دينية.
قدم مدير الأبحاث والنشر الأستاذ أحمد ناجي عرض مؤسّسة أديان تحت عنوان “المسؤولية الاجتماعية الإسلامية للمواطنة والعيش معا”، وهي مقاربة تعمل عليها أديان تركز من خلالها على الدور الإيجابي للدين في تعزيز قيم الحياة العامة، وحوار الأديان والعمل على القضايا المشتركة التي تجمعها.
وقال ناجي، إن هذا المشروع يستهدف المجتمعات المسلمة، وجاءت فكرته من وجود فجوة بين ما يحتاجه المجتمع وبين ما يقدّم في التعليم التقليدي، ويهدف إلى تسييل الأفكار النظرية بشكل عملي عبر المؤسّسات التعليمية، عن طريق تأسيس شبكة من الخبراء، والترويج للإنتاج الفكري والثقافي عبر الإنترنت، وتكثيف الحملات الإعلاميَّة المتعلقة بأهداف هذا الخطاب الإنسانوي.
مؤسسة السعدون للتعليم من الأردن/ الدكتور نبيل السعدون:
قال الدكتور السعدون إن مشروع إصدار مناهج للتربية الإسلاميَّة باللغة الإنجليزيَّة للمراحل الابتدائيَّة والإعداديَّة والثانويَّة، بدأ العمل فيه منذ عقدين، وسيصار إلى إصدارها بلغات أخرى ومنها العربيَّة قريبا.
وذكر أنّ الفكرة بدأت بعد كارثة 11 سبتمبر، عندما طرحت الجالية المسلمة في أمريكا السؤال: كيف ندرِّس الإسلام؟ وقد كان وقتها مشرفا على بعض المؤسّسات التربويَّة، فطلب منه أن يقود فريق عمل لإنتاج مناهج تربية إسلاميَّة تتفّق مع القرآن والسنَّة، وتحاكي أو تتواءم مع الأوضاع المعاصرة في الوقت نفسه، حيث بدأت المسيرة في العام 2002، وظهر أول إصدار منها في العام 2005.
وقال السعدون، إنّ المناهج تدرّس الآن في أكثر من 1000 مدرسة في أنحاء العالم، وإنّ طبعة جديدة ستصدر قريبا منها، ستكون الأفضل والأبهى في العالم.
❏ احتفاليَّة إعلان عمّان عاصمة التنوير للعام 2019
اختتم الاجتماع الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين المنعقد في عمّان بتتويج أشغاله بإعلان عمّان عاصمة التنوير للعام 2019. حيث أقيمت الاحتفاليَّة تحت رعاية وبحضور معالي وزير الثقافة الدكتور باسم الطويسي، في قاعة المؤتمرات/ المركز الثقافي الملكي.
وجاء اختيار عمان هذا العام من قبل الرابطة بعد اختيار تونس عام 2017، والرباط 2018 استناداً لما قامت به فرق عمل الرابطة من رصد ومتابعة للمشاريع والبرامج المتعلقة بالتنوير داخل الأردن.
وقال وزير الثقافة الدكتور باسم الطويسي في كلمة له خلال الاحتفالية، “إن عمان أسّست في مطلع القرن العشرين على التنوير القائم على الوسطية والقبول بالتنوع والتسامح والعيش المشترك، واليوم تتكئ على إرث كبير من الخبرة الثقافية في إدارة التعدد والتنوع وفي بناء القيم الثقافية المشتركة.
وأضاف “لا توجد عاصمة في المنطقة راكمت من خبرة في إدارة التنوع الثقافي كما فعلت عمان، ولا توجد مدينة في الإقليم حافظت على التوافق الثقافي بين المقييمن فيها كما يفعل الأردنيون اليوم، ولا تجربة مماثلة لممارسة التنوير باعتباره فعلاً ثقافياً يمارسه الناس في سلوكهم اليومي كما هو الحال في تجربة عمان المعاصرة”.
وأكد الدكتور الطويسي التزام وزارة الثقافة بالقيم الأردنية في تعزيز قيم الوسطية الثقافية من خلال سعيها لبلورة هذه القيم عبر رؤية تقوم على الانتقال بالاشتغال على الثقافة من النخب إلى الناس عامة، أي المزيد من التمكين الثقافي للمجتمعات، وحماية الحقوق الثقافية لكافة الفئات، وتدشين حالة من الحماية الثقافية المنتجة، وتوظيف الإبداع والإبتكار الثقافي لتقديم المزيد من الحلول الثقافية”.
ونوه الوزير إلى أهمية التكيف الثقافي الإيجابي مع التحولات التكنولوجية وتحديداً الرقمية، وبناء سلسلة من شبكات الاتصال الثقافي الموجهة نحو الداخل والإقليم والعالم.
بدوره، قال رئيس مجلس أمناء الرابطة الدكتور المحبوب عبد السلام، إن الرابطة التي تعقد اجتماعها الرابع في عمان التي شهدت ميلاد الرابطة تهتم بعالم التنوير والمعايير المشتركة التي من الممكن أن تكون رأياً عاماً في المسائل المتعلقة بالمناهج، والتربية، مضيفاً أنها تضم طيفاً واسعاً من العرب العاملين في مجال التنوير.
وأشار إلى أن اختيار مدينة عمان كعاصمة للتنوير العربي هذا العام من قبل مجلس الأمناء، جاء تقديراً للدور المهم الذي يقوم به الأردن في الثقافة والتنوير، واستناداً للتقرير الذي أعده فريق الرابطة.
وعرض المشرف على تقرير حالة التنوير في الرابطة الباحث عبد الله الجبور خلال الاحتفالية إلى تقرير حالة التنوير 2019 الذي اختيرت بموجبه عمان كعاصمة للتنوير، مبيناً “أن التقرير يقرأ الحالة التنويرية، بمكونات أساسية هي؛ راهنية التعليم، والتجديد الديني، وجهود المجتمع المدني في التنوير، والحالة الثقافية والإنتاج الفكري”.
وقال إن “الأردن سعى باستمرار لاختراق حاجز عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بالسلام والاعتدال، وساعدته في ذلك حالة الهدوء في احتضان وإيجاد مساحات عمل للمجتمع المدني، وبرامجه التربوية والتعليمية”.
واشتملت الاحتفالية التي أقيمت ضمن الاجتماع السنوي للرابطة الذي جاء بعنوان “التنوير وصناعة المستقبل” على معرض للكتاب التنويري.
وفي نهاية الحفل، سلم رئيس مجلس أمناء الرابطة، وزير الثقافة باسم الطويسي درع عمان مدينة التنوير للعام 2019.
وقد حظيت الاحتفاليَّة بتغطية محليَّة وعربيَّة وعالميَّة في الصحف والمواقع والقنوات التلفزيونيَّة، منها: عمَّان عاصمة التنوير 2019 (تغطية التلفزيون الأردني) فيديو، ااختيار عمّان عاصمة للتنوير لعام 2019 (تغطية قناة الميادين) فيديو، عمّان: عاصمة التنوير 2019 (تغطية الـBBC)، اختيار عمَّان عاصمة التنوير للعام 2019.
معرض الكتاب التنويري
تحت رعاية معالي وزير الثقافة الدكتور باسم الطويسي وعلى هامش احتفاليَّة إعلان عمّان عاصمة التنوير للعام 2019، نظّمت الرابطة العربيَّة للتربويّين التنويريّين (معرض الكتاب التنويري) في بهو المركز الثقافي الملكي/ قاعة المؤتمرات، والذي افتتح أبوابه للعموم من الساعة الرابعة مساء وحتى الساعة الثامنة مساء.
وقد شاركت دور نشر أردنيَّة (دار الآن/ ناشرون وموزعون، دار اليازوري للنشر والتوزيع، مكتبة الأرشيف المختصة بتوزيع كتب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) في المعرض، حيث عرضت منشوراتها تحت تصنيف (كتب فكريَّة، كتب تربويَّة، كتب الفلسفة، وكتب فلسفة الدين) على ضيوف المعرض.
كما تمكّنت الرابطة العربيَّة للتربويّين التنويريّين من عرض منشوراتها في جناحٍ مستقلّ ضمن معرض الكتاب التنويري، بعد أن استطاعت خلال هذا العام من زيادة عدد إصداراتها الورقيَّة والتي تضمّنت أعداد مجلة التنويري الورقيَّة، دليل التربية والتنوير، كتاب التعليم وبناء الدولة الوطنيَّة في تونس: مقدّمات في التنوير التربوي، تقرير حالة التنوير في الأردن، حيث قامت بتوزيعها على الحضور بالمجّان.