استضاف سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، يوم الأربعاء 19 شباط/ فبراير 2020، الدكتور سهيل القش، الباحث الزائر في المركز، وأستاذ الفلسفة السياسية في جامعة لافال بكندا، الذي قدّم محاضرةً بعنوان “حنّا أرندت ومكانتها في الفلسفة السياسية المعاصرة”.
ركّز الباحث في عرضه على مفهوم الشمولية لدى الفيلسوفة الألمانية ثمّ الأميركية، حنّا أرندت، واضعًا ذلك في سياق إنتاجها البحثي، وفي سياق الفلسفة السياسية المعاصرة، محاولًا تطبيق المفهوم الأرندتي للشمولية الذي طوّرته في عملها الصادر سنة 1951 على أنظمة الحكم في المنطقة العربية. وخاض في التنشئة الفلسفية لأرندت مشيرًا إلى كونها تلميذة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر. وحاول حصر المواضيع الفلسفية السياسية التي كتبت فيها وناقشتها نقديًا، بدءًا من تحليل جذور التوتاليتارية، ودراسة الفلسفة اليونانية ونقد الحداثة، وصولًا إلى مراجعة الصهيونية.
وبعد تحديد السياق التاريخي الذي وجدت فيه فلسفة أرندت، توجّه الباحث نحو مناقشة ما تسميه الفيلسوفة مكوّنات النظام الشمولي، كاشتغاله وتطوّره في المجتمعات المذررة أو المفردنة، والتي تغيب فيها العناصر الجماعاتية كالقبيلة والعشيرة والإثنية. ويرى الباحث أن هذا المكوّن أساس ادعاء أرندت أنّ ألمانيا لم تستورد النظام الشمولي من أفريقيا أو من سواها، وإنّما وُجدت له بيئة خصبة في المجتمع الألماني. وتعتبره أحد منتجات الحداثة التي تعدّ محلّ نقدٍ دائم في الإنتاج الفكري للفيلسوفة. أمّا المكوّن الآخر للشمولية الذي ناقشه فهو تمازج الإرهاب والأيديولوجيا في سياق الأنظمة السلطوية، بحيث يوضع الإنسان بين خيار الخضوع التّام للنظام الشمولي أو الوضع في خانة الإرهاب. وعدّ هذا المكوّن يفسّر أزمة اليهود في أوروبا خلال حكم النازية، بحيث أصبحوا محلّ وشاية وتخوين بسبب النزعة الشمولية القاضية بتجنيد المجتمع وتنميط سلوكه وعلاقاته الشخصية بما يخدم النظام الحاكم وأيديولوجيته.
وقارب الباحث نقديًا القراءة الأرندتية للفلسفة اليونانية؛ من حيث إنّ الفيلسوفة قامت بإعادة قراءة الفكر اليوناني، واضعةً نموذجًا ذا ثلاثة مستويات للحياة في اليونان القديمة؛ المستوى الأوّل هو مستوى العمل، والذي يعدّ مستوى “حقيرًا” من الحياة العملية تضطلع به النساء والعبيد، ومستوى الإنتاج الذي يجعل الإنسان يقترب من إنسانيته ويشمل العمل الفنّي. أما المستوى الأخير، والذي يعدّ الأرقى، فهو مستوى الفعل السياسي، بحيث يتحرّر الإنسان من أيّ التزام عضلي بشأن كسب الرزق، لمصلحة العمل السياسي ومناقشة قضايا الصالح العام، والذي تعدّ ديمقراطية أثينا المباشرة أحد أهم أشكاله. وأوضح أنّ هذا المستوى الراقي من مستويات الحياة النشطة في اليونان يعدّ لدى أرندت بمنزلة استلام الإنسان السيّد دور الآلهة، التي كانت تضطلع بالأمور السياسية بدلًا منه، مناقشًا موقفَي أرسطو وأفلاطون من الديمقراطية المباشرة، ومشيرًا إلى أنّهما كانا ضدّ هذا الشكل من أشكال الحكم.
وأشار الباحث، في سياق نقد أرندت للحداثة، إلى أنّ تفسيرها لنشوء الظاهرة الشمولية مرتبط بالانتقال من ديمقراطية أثينا المباشرة إلى الديمقراطية التمثيلية غير المباشرة؛ إذ إنّ ديموغرافية أثينا المحدودة (نحو 20 ألف مواطن بحسب الباحث) كانت تسمح بخلق جمعيات عامّة تنتج قرارات بشأن الصالح العام؛ لكنّ هذه الظروف لم تعد متوافرة في الدول الحديثة، لذا يُستعاض عنها بالتمثيل والبرامج الانتخابية الأيديولوجية. وترى أرندت أن الديمقراطية التمثيلية قد ساهمت في خلق “أغلبية صامتة” شكّلت بيئة خصبة للأفكار الشمولية، وأسّست مجتمعًا مستعدًا لأن يحكمه نظام شمولي؛ وقد سمّى الباحث هذه الأغلبية الصامتة بـ “الكتلة القطيع”.
ثم طرح إمكانية إطلاق تسمية “الأنظمة الشمولية” على الأنظمة العربية، كالنظامين البعثيين في العراق وسورية، والنظام الناصري في مصر، والأنظمة التي عرفت انقلابات عسكرية، في الجزائر وليبيا مثلًا. واعتبر أنّ توصيف أرندت ماهية النظام الشمولي لا يتلاءم مع طبيعة الأنظمة الحاكمة في المنطقة؛ فحتّى الجهود النظرية بشأن الأنظمة السلطوية غير قادرة على تقديم قراءة متماسكة لها، أضف إلى ذلك أن دراسة الأنظمة العربية سيطر عليها النموذج الماركسي الذي فشل بدوره في فهمها.
في الختام، أشار الباحث إلى أنّ أرندت تعدّ من أبرز فلاسفة الإرادة والتعددية، وأنّ التهم الموجهة إليها وإلى أستاذها هايدغر بالنازية، ساهمت في حجب فكرها عن الأكاديميا الغربية.
وأعقب المحاضرة نقاشٌ عامّ، شارك فيه الباحثون في المركز العربي، وأساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا وطلبته، وجمهور الحضور.