عقدت الرابطة العربيَّة للتربويِّين التنويريِّين، السبت الموافق 31 يوليو/ تموز 2021، وضمن فعاليّات مؤتمرها الخامس الذي يحمل شعار (الرسالة المعاصرة للدين)، رابع ندواتها الفكريّة عبر تقنية الاتّصال عن بعد (العلمانيَّة المتديِّنة من رحم القراءة المعاصرة للدين) التي ترأسّها الدكتور نبيل قسيس، واستضاف فيها الدكتور محمود حيدر، والدكتور مختار بنعبدلاوي.
ورحّب رئيس الندوة الدكتور نبيل قسيس بالحضور، شاكرًا الرابطة العربيَّة للتربويّين التنويريّين على تنظيم هذه الندوات، لافتًا إلى أهميّة موضوع الندوة التي تتناول قضيَّة جدليّة لطالما شغلت العديد من المفكّرين والباحثين وعموم المشتغلين في حقل الاجتماع السياسي خصوصًا في العشريّة الأخيرة؛ إنّها العلمانيّة ذاك النهج الحداثي لإدارة شؤون الدولة والمجتمع؛ هذا النهج المعاصر الحديث في تمظهرها والعتيق في نشأتها، إذ تعود جذورها التأسيسيّة إلى العهد اليوناني والروماني القديم، وتتجدّد مظاهرها مرَّة أخرى أبّان عصر الأنوار وعقب الإصلاح الديني في أوروبا، لتنتهي اليوم بتجلّياتها المتباينة ما بين دولة تقف على مسافةٍ واحدة من الفرقاء، إلى دولةٍ لا دينيّة تفتح من خلال علمانيّتها معابر نحو الإلحاد.
وضمن السياق الذي ينبع منه عنوان الندوة، أضاف الدكتور قسيس: ولربما من دواعي الجدل القائم اليوم في عالمنا الإسلامي والعربي خصوصًا، علاقة العلمانيَّة بالديموقراطيّة التي تعتبر المأمول الأوّل لشعوبٍ أنهكها الاستبداد بكل أنواعه وأشكاله، بدايته استبداد سياسي وليس آخره الاستبداد الثقافي والمعرفي؛ ليلوح في أفق هذا الجدل القائم أسئلة كبيرة: هل من رابط تاريخي بين الديموقراطيّة والعلمانيّة؟ هل من ترابط منطقي ما بين الاثنين؟ وهل يمكن للديموقراطيّة أن تكون وحيدة بلا توأمها العلماني بعد أن أثبتت العلمانيّة أنَّ بمقدورها أن تكون بلا رديفها العلماني؟ وهل تُعدّ العلمانيَّة في عالمنا الإسلامي من نواقض الديموقراطيّة حيث أنّها تعتبر انقلابًا على النموذج التأسيسي للإسلام، وحيث إنّ الديمقراطيّة بالضرورة، يتوجّب عليها دومًا أن تجلب لإدارة المجتمع بما يتوافق مع مناخه السياسي والمعرفي؟ وهل هناك توجّه ما بعد حداثيّ في عوالم الديموقراطيّة العلمانيَّة لاستحداث ما يسمّونه ما بعد العلمانيَّة؟
وفي مداخلته، انطلق الدكتور المختار بنعبدلاوي، من مقاربة أشكال العلاقة الجديدة التي يتطلّبها خلق نوع من التوازن في العلاقة بين الدولة والدين، وهو ما طرح في أوروبا في العصور الوسطى وإلى حدود مطلع العصور الحديثة، كما تطرح بأشكال مختلفة ومتعدّدة كما نراه مثلا في الهند، أو كما تطرح من حيث إشكاليّات تدبير التعدّد الديني في وسط آسيا وحتى في الصين. وفي الحقيقة ليست هناك وصفة كونيّة للتعاطي مع هذه الحالة، فللحالة وجه كوني ولكن لها كذلك، بصمة وخصوصيَّة بحسب معطيات التاريخ والمجتمع والثقافة. كما تتناول هذه الإشكاليَّة سؤالًا حول حقوق المواطن العامّة والخاصّة، واختيار شكل من أشكال العلاقة بين الدين والدولة: هل هو خيار الإقصاء أم الإدماج؟ هل هو خيار القمع أم الاستيعاب؟ قد يبدو لنا لأوّل وهلة أنّ السؤال يطرح من موقع الدولة، باعتبارها صاحبة السلطة، لكن هذا كذلك يتعلّق بالدين؛ ما هي الصيغ التي تمكّن من الحفاظ على حرّيّة العقيدة أو حرّيّة الضمير دون أن ننغلق على الآخر؟ هذه القضيّة كذلك مطروحة بصفة خاصّة في منطقتنا العربيّة؛ لأنّها تبدو كحاجزٍ حقيقي أمام الدمقرطة. كما أنّها كانت مصدر تهديد واضح منذ أواسط القرن التاسع عشر؛ فالحرب اللبنانيّة أوّل حرب دينيّة اندلعت لاعتبارات طائفيّة مذهبيّة ثمّ امتدّت لتشمل معظم بلاد الشام، نحن إذا أمام برميل بارود في المنطقة يفترض أن نجد له الحلول.
واستعرض الدكتور بنعبدلاوي النماذج العلمانيّة المعمول بها في عالمنا الحديث،قائلا: عندما ننظر إلى النماذج التي يعمل بها في العالم الغربي اليوم، نجد أنفسنا أمام نموذجين؛ نموذج العلمانيّة الفرنسي الذي يعدّ امتدادًا للنموذج اللاتيني الإغريقي التقليدي، ويعكس الخصوصيّة التاريخيَّة والاجتماعيّة والثقافيّة لفرنسا، فهو لصيق بقضايا ومشاكل فرنسا وبالتالي هو أقرب إلى الخاصّ منه إلى العام، ويمُثّل العلاقة الصداميّة وعلاقة الإقصاء المتبادل التي برزت بعد الثورة الفرنسيَّة. وبالتوازي معه نجد نموذجًا آخر، هو النموذج الأنجلو ساكسوني، وهو نموذج له أيضًا طابعه الخاصّ، ولكن يمكن القول بإنّه نوع من الوعي الفكري والثقافي والاجتماعي الذي يساير تطوّر المجتمع الذي يبحث عن حلول لمشاكل المجتمع انطلاقًا من المجتمع، والذي لم يتأسّس على العداء للدين كما هو الحال في العلمانيَّة الفرنسيَّة، كما أنتج مفكّرين تميّزوا بمقاربة جديدة ومختلفة، لكن أهمّ ما أنتجته كذلك على المستوى المؤسّساتي من سماحةٍ دينيّة واسعة ومتبادلة. ولذلك اليوم حتَّى عندما ننظر إلى أغلب النماذج المنتشرة في العالم أو التي تحاول إعادة إنتاج هذه الصيغة فهي كثيرًا ما تتبنّى أحد هذين النموذجين، ويبقى الأهم برأيي رغم الإشكاليّات التي يطرحها النموذج الفرنسي، الخطر الذي يتهدّد العالم هو ذلك الطابع الاستبدادي الذي يفضي أحيانًا إمّا إلى عبادة الفرد أو إلى إقرار نظام شمولي باسم الحقّ الإلهي وتوظيف الدين والمعتقد السياسي لتبرير وشرعنة سلطة سياسيّة غاشمة. ربما قد تكون الحالة البريطانيّة أقرب لنا فلا بدّ من البحث عن نموذج يخصّنا في عالمنا العربي، ويتلاءم مع احتياجاتنا في التحوّل الديمقراطي، ولا بأس هنا أن نستلهم بعض النماذج في العصر العبّاسي أو نموذج طليطلة أو قرطبة في الأندلس حيث المسجد وهو مكان للعبادة ومجال عمومي عند المسلمين تحوّل إلى مجال عمومي للنقاش وللمناظرة وللتحاور.
وختم الدكتور بنعبدلاوي مداخلته قائلا: في السنوات الأخيرة وتحت وطأة الإرهاب، كانت هناك مراجعة من طرف عدد من الدول لعلاقة الدين بالدولة، لكن للأسف هذه المعالجة كانت من منظورٍ أمني، وليست من منظور بعيد المدى واستراتيجي، وبالتالي فأنا أوصي أنّه على كل تدخّل أو إصلاح في المجال الديني، أن يراعي عددًا من الشروط هي: أولا: استقلاليَّة الدين عن السلطة السياسيَّة بما أنّ وظيفة الدين هي تكريس الإيمان والتقوى، ثانيًا: لا بدّ من استقلال السلطة السياسيَّة عن الدين؛ أي أنّ السلطة السياسيّة يجب أن تكون محايدة ويكون الجميع خادمًا للمصلحة العامّة وأن تكون خدماتها موجّهة للجميع، ثالثًا: يجب أن يكون هذا كلّه بناء على قرار سياسي مؤسَّس ويأخذ شرعيّته من صناديق الاقتراع على قاعدة أخلاقيّة هي حرّيّة الإنسان والمساواة أمام القانون وكرامة الإنسان كأساس وكخلفيّة لأي عمل تشريعي.
وافتتح الدكتور محمود حيدر مداخلته (التفكير العربي بالعلمانيَّة.. مشكلة المفهوم ومعضلة الفهم)، مؤكّدًا أنّنا أمام مشكلة مفهوم، وهي مشكلة بدأت بالغرب على اعتبار أنّ مفهوم العلمانيّة هو نابتة غربيّة بامتياز، مفهوم العلمانية المثير للالتباس والاضطراب خصوصًا في بلادنا، هذا الاحتدام الوهمي بين الدين والعلمانيَّة. هذا الأثر الذي تركته العلمانيّة في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة هو أثر وافد ولا ينتمي إلى رحم هذه الجغرافيا العربيّة الإسلاميّة. لافتًا: أنَّ العَلمانيّة هي تجلّي من تجلّيات العقل أو المبدأ المؤسِّس للحضارة الغربيّة، يعني العلمانيّة هي معطى فلسفي يوناني، وأوَّل من بدأ بتحديد شكلها هم السفسطائيَّون، وصولًا إلى أرسطو، يعني التأسيس الفلسفي الميتافيزيقي للعلمانيّة نظّمها أرسطو بالمقولات. هذا المدّعى إن لم نعد إليه، كل النقاشات التي تترتّب على العلمانيّة بالتباساتها، سوف تؤدِّي إلى التأسيس الخاطئ للتصوّرات سواء في الغرب أو في عالمنا العربي والإسلامي.
ولفت الدكتور حيدر محمود، إلى وجود ستة تعريفات للعلمانيَّة كما لخّصها المفكّر الألماني لاري شاينر؛ وهي: أفول الدين، والتناغم مع الدنيا، وتحرُّر المجتمع من قيود الدين، وتحوّل المعتقدات والمؤسَّسات الدينيَّة، وسلخ القدسيَّة عن العالم، والسير من المجتمع القدسي إلى المجتمع العلماني؛ هذه هي المآلات التي انتهى إليه مصطلح العلمانيَّة على تعدّده وعلى الاجتهادات الفلسفيّة والسيسيولوجيّة التي اقترحت بشأنه موجّهة باتّجاه تسييل المبدأ المؤسِّس وهو الفصل بين الله والعالم. هل يمكن للعقل الأدنى أن يوجد فضاء معرفيًّا وحضاريًّا يستوي فيه التناغم بين مكوّنات الاختلاف في الوقت الذي لا يستطيع أن يفهم الغيب؟ هل يمكن للعقل الأدنى أن يتوصَّل إلى فهم حقائق الغيب؟ هذا سؤال مطروح على العقل العلماني بما هو مشبع بالعقل الأدنى أو بالعقل الدنيوي.
ودعا الدكتور محمود حيدر، إلى الانتقال من حقل الالتباس الذي يثيره المفهوم إلى حقل آخر يعتني بفهم وتدبير السياق التاريخي للحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، حتّى نستطيع أن نستنبط نظريَّة معرفة جديدة لإحداث الإحياء الحضاري، وهذه النظريّة ينبغي أن تحظى بالاستقلال التامّ عمّا نمكن أن نسمّيه بالهيمنة المعرفيَّة الغربيَّة وخصوصًا هيمنة الحداثة. لا بدّ من حدوث هذا الاستقلال المعرفي من أجل أن نتبنّى الهندسة المناسبة للتاريخ العربي الإسلامي. مؤكّدًا أنّ كلّ هذه الفتن التي تحصل عبر استخدام الشأن والفكر الديني لإطالة أمد الهيمنة على هذه المنطقة، فكما نعرف أنّ السنوات العجاف التي عاشها العالم العربي كانت شاهدة فعليّة على هذا التدخّل وهذا الاستشراق المستحدث الذي مارسه الغرب من خلال الإسلاموفوبيا، واستخدام السلفيّات والنزعات التكفيريّة من أجل إثارة الفتن وتمزيق الجغرافيا العربيَّة والإسلاميَّة.
وختم الدكتور محمود حيدر مداخلته قائلا، إنّ العالم العربي والإسلامي والغربي الآن أمام تحدّي إنتاج معرفي جديد لبناء حضارة إنسانيّة جديدة، وأتصوّر أنَّ صدمة جائحة كورونا كانت أبعادها أكبر من الجانب البيولوجي؛ إذ أثّرت على العقل ومناهج التفكير والجانب الأخلاقي والقيمي. والنقاش المحتدم الآن في المجتمعات الغربيّة، ولو أنّه لا يزال يدور في حلقات محدودة، إلا أنّه يعيش إرهاصات انفجار معرفي جديد على الأقل يطرح أسئلة: هل يمكن عودة الإلهيَّات إلى المجتمعات الغربيّة؟ وهو ما يمكن أن يوجِد آفاقًا جديدة لإعادة إنتاج وإحياء الحضارة الغربيّة، هذا سؤال يطرح في المؤسَّسات اللاهوتيّة مثلما يطرح في الجامعات والمعاهد العلميَّة في الغرب. أيضًا في بلادنا، صحيح أنّنا لا نزال نعيش صدمة الانفعال بالغرب وبالفتنة الداخليّة، إلا أنّ هذا النقاش ينبغي أن يُعاد طرحه من جديد ليطرح السؤال: كيف نبدأ بصياغة هندسة جديدة ومعرفة جديدة لإحداث إحياء مجتمعي وحضاري جديد؟
شهدت الندوة التي حضرها عدد من المهتمّين والفاعلين في مجال التنوير الديني، نقاشًا موسّعاً، أجاب فيه الدكتور محمود حيدر والدكتور المختار بنعبدلاوي على مداخلات الحضور واستفساراتهم، علمًا أنّ الندوات ستتواصل بشكلٍ دوري، ويمكن للمهتمين متابعة منصّاتنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي نعلن من خلالها عن مواعيد الندوات، ونتيح المشاركة فيها.