عقدت الرابطة العربيَّة للتربويِّين التنويريِّين، يوم الأحد الموافق الموافق 22 أيار/مايو 2022، وعبر تقنية الاتّصال عن بعد، ندوة (احتكار الرحمة.. وجدل الأنا والآخر) التي أدارها الدكتور نبيل قسيس رئيس المنتدى الدولي للإسلام والديمقراطية من سوريا، واستضاف فيها الدكتور عامر الحافي أستاذ الأديان المقارنة في جامعة آل البيت من الأردن، والدكتور يوسف كلام أستاذ العقيدة ومقارنة الأديان بجامعة القرويين من المغرب.
ورحَّب مدير الندوة، الدكتور نبيل قسيس، بالحضور وبضيفي الندوة اللذين لبيا بكرم دعوة الرابطة لهذا الحوار في مسألةٍ قد تكون اليوم من أكثر المسائل جدلًا وصخبًا، وافتتح حديثه قائلًا: لقد فجَّرت رصاصة الغدر الإسرائيليَّة والتي اخترقت جمجمة المناضلة الفلسطينيَّة شيرين أبو عاقلة، شهيدة فلسطين والقضيّة الحقّ، أكثر ما فجّرت، موقوتات ثقافيَّة جدليَّة كانت قد سكنت ثغور الجدل باستحياء. هذه الموقوتات التي يتجاوز كنهها ظاهر الجدل المتعلّق بجواز الاستغفار للغير، ويتعدّاه إلى قضيَّةٍ لطالما شغلت التنويريّين عبر عصور، وهو المتاح من هذا التراكم الإرثي لعمليَّةٍ نقديَّةٍ جريئة عابرة لمحظورات حرّاس التراث.
ولفتَ قسيس، إلى أنّ من عملوا بالتراث تفصيلًا وتفكيكًا يتّفقون على أنَّ عقيدة الإسلام هي عقيدة الإنسانيَّة كلّها، إن لم يكن ببعدها العقدي الإيماني فهي بلا منازع في مظانها الكوني، والذي يعتبر الإنسان بمفهومه المطلق الغاية الأسمى من غايات الخلق، والمناط به إدارة هذا الوجود المحسوس لحظة نيله درجة الاستخلاف في الأرض.
وأضاف: إن الجدل اليوم حول كيف يرى المؤمنون العقديون الغير، هو جدل إنساني حيّ ومتجدِّد، لا يملك ثيمة إسلاميَّة فقط، ولا يختصّ بالمسلمين دون غيرهم، لكن أقدار الخلق أُنيطت بمن استؤمنوا على رسالة الخالق للعالمين، أن يُساءَلوا عن أي تقصير يحول دون إتمام عولمة هذه العقيدة. وكون الحداثة التي أنتجت شبكات التواصل هي واحدة من أهم حوامل هذا الجدل ونشره وإشراك العموم فيه، فإنَّ واجبًا مضاعفًا على كاهل فرسان الحداثة أن لا يألوا جهدًا في خوض معركتهم عبر ما تتيحه هذه الحداثة من أدوات وساحات عراك. قد يبدو لوهلة أإنّ المستفيد الأكبر من هذا الجدل هو ذلك الكيان الإسرائيلي الغاصب عبر حرف بوصلة الإدامة لجريمته إلى إدانة يوجّهها فرقاء الرأي لبعضهم البعض، لكن حقيقة الأمر، فإنَّ تبعات هذه الجريمة النكراء من جدلٍ دائرٍ بين ذوي القضيَّة ذاتها، ينقلنا إلى معركة مع الذات قد تكون واحدة من بداية صنع مشروع نهضة أمّة.
وافتتح الدكتور عامر الحافي مداخلته قائلا: إنَّ موضوع نجاة الذات وهلاك الآخر هو موضوع قديم ومتجدِّد، وهذه مشكلة في الفكر الديني ليست متعلّقة بالمسلمين دون غيرهم، الشعور بالاستحواذ على الحقيقة الدينيَّة هو شعور طفولي وارد على الإحساس البشري. هذا الشعور الطفولي لا يخرج عن مشكلة البساطة والسذاجة الإنسانيَّة، لكن عندما نذهب نحو تركيب الأفكار بطريقةٍ أكثر عمقًا ونحو الغوص في مشكلة النجاة والخلاص، نجدها مشكلة تحتاج إلى عمق فكري كبير لإدراك هذه المعضلة التي استغرقت الكنيسة المسيحيَّة 19 قرنًا حتى تستوعب أن خلاص الذات وهلاك الآخر ليست معادلة إلهيَّة صحيحة، إنّها لا تعطي للذات حصانتها، ولا تعطي للإله عدالته. إنك عندما تجعل الخلاص حكرًا على مجموعةٍ معيّنة بالاسم وليس المسمّى، فإنّه سيكون صيغة من صيغ الإقصائيّة الدينيَّة والاستبعاد عن رحمة الله. الرحمة الإلهيّة وتداخلها مع الخلاص ميزة، إنّ الإسلام جعل الرحمة هي عنوان للنجاة، فالجنّة والنجاة والرّحمة والخلاص كلّها تتداخل في النظرة الإسلاميَّة.
وأضاف، أنّ الفكر الإسلامي، انشغل حاليًّا بجزئيات، أمّا الأسئلة الجوهريَّة فقد غابت عن المشهد. يقول علماء الأصول: “الحكم على الشيء فرعٌ من تصوّره” وللأسف أصبح الحكم على الشيء هو تصوّره. لا يمكن أن يكون الحكم الفقهي بديلًا عن النظرة الفلسفيَّة الكليَّة للقضايا الكبرى. اليوم ومع هذا التطور الكبير في الفكر الإسلامي، من غير المقبول أن يبقى هذا الفكر حبيسًا لنمطيَّة فكريَّة نستقدمها ونستحضرها عند الضرورة من التاريخ. أي فكر إنساني ناجح وتقدّمي وقادر على التعاطي مع الشأن الإنساني، يجب أن يكون مستمرًّا وقابلًا للتوسّع والمراجعة لا أن يكون صيغة جاهزة. في المقابل، نحن أمام خطاب ديني إيديولوجي مغلق، هذا الخطاب غير قادر على استيعاب ما هو إنساني أبدًا. ولفت إلى أنّ الرّحمانيَّة هي العنوان الأبرز لهذا الوجود،مشيرًا إلى عبارة محيي الدين بن عربي، عندما قال إنّ الرحمن على العرش استوى، استوى باسم الرحمن، واسم الرحمن غلب على أسمائه الحسنى كلّها. هذه الفكرة الأساسيَّة ربّما تحلّ المشكلة، وبالتالي الإنسان لا يستطيع أن يتدخَّل فيما فوق العرش، الرحمانيّة فوق العرش وهي الغالبة. وأعجب لهؤلاء الذين يقولون إنّ الله عزّ وجلّ يدخل جهنم غالبيّة البشر لأنّهم غير مسلمين، وينسون أن الرحمن على العرش استوى لا الجبار أو المنتقم على العرش استوى.
وقال الحافي، نحن المسلمين نملك المضامين الثقافيَّة التي يمكن أن تقدّم خطابًا إسلاميًّا إنسانيًّا عقليًّا، لكن المشكلة في عدم قدرتنا استخراج هذه الكنوز المعرفيَّة من القرآن الكريم. هذه العطالة العقليَّة أصابتنا لأسباب كثيرة، حيث أصبح العقل المسلم في حالة دفاع عن الله، ولا يدرك هؤلاء الناس أنّهم عندما جعلوا الله لـ20% من البشر، أنّهم يتّهمون الله ولا يدافعون عنه. إنّ العدالة الإلهيّة أصبحت على المحكّ عندما يكون من ولد على الإسلام هو المرحوم فقط، وهو الذي يستحقّ الجنّة، هل يدرك هؤلاء أنّهم أمام معضلة أخلاقيَّة، الثوابت الأخلاقيَّة غائبة اليوم، وما يسمّى بالمسلّمات العقائديّة هي أهم عند الأغلبيّة من المسلّمات الأخلاقيّة. المشكلة هنا أنّنا أصبحنا نسائل الأسئلة الأخلاقيَّة البدهيّة من منظورٍ أخلاقي جزئي، وإذا اصطدم التصوّر الديني بالبدهيّات الأخلاقيّة سيسقط. إنّ الحقّ هو حقّ بقدر انسجامه مع العدل، فإذا كان الحقّ لا يفي بالعدل ولا يناسبه، فيجب أن نعيد النظر في الحقّ. نحن لم نعتد على مساحات الحريّة في نقاش قضايانا الدينيّة، وبالتالي موضوع الخلاص هو خط أحمر بمعنى الكلمة، يا أخي العزيز أنت تتّهم العدالة الإلهيّة، أنت جعلت ربّ العالمين، ربًّا للمسلمين، وربًّا لفئةٍ من الناس.
كما استعرض بعض الشواهد من القرآن والسنّة، مثل الآية القرآنيّة: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) مبيّنًا أنّ: من هو عاجز عن قسمة رزقه في الحياة الدنيا، كيف يكون قادرًا على قسمة رحمة الخالق في الآخرة؟ هذا العقل تألّه لأنّه جهل عبوديّته أمام الله، لهذا يضع نفسه وصيًّا على العرش، ووصيًّا على الجنّة. كما أشار إلى الحديث النبوي: (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي)فكيف تمتلأ جهنَّم بـ99% من البشر كما جاء في بعض المرويّات؟ إذن، فغضبي سبق رحمتي! نحن نتّهم الخالق إذ حكمنا على خلقه بأنّهم جلّهم في جهنَّم، وأنّ فكرة وجود الإنسان بمجملها كانت مشروعًا فاشلًا، وأنّ رهان الشيطان نجح. من له الحقّ أن يحاكمني عقائديًّا، لماذا لا أحاكمك أنا عقائديًّا؟ من له الحقّ أن يكفّرني، لماذا لا أكفّرك أنت؟ إنّ ما يسمّى بإقامة الحجّة فكرة قروسطيَّة منتهية يجب أن تتوقّف، فأيّة حجّة هذه التي يقيمها إنسان ناقص على إنسان آخر ناقص؟ واجتهاد نسبي على اجتهاد نسبي؟ فيما لو نظرنا إلى الآخر على أنّه ذلك الذي يبحث عن الهداية، الآخر كمشروع هداية وليس الآخر كنقيض للذات. نحن أمام معضلة جزء منها له علاقة بالعقل الإسلامي والعقل العربي، جزء منها له علاقة بسوء فهم النص الديني. يجب أن نقرأ النص الديني بعمق.
وختم الدكتور عامر الحافي مداخلته قائلا: إنّ التعدّد والتنوّع في الفهم الديني يجب أن يكون ثراء، ولا يجوز لنا اليوم وقد وصلنا إلى هذه المستويات من فلسفة المعرفة أن نعود لطرح أسئلة ساقطة أخلاقيًّا، يجب أن نحترم بشريّتنا وإنسانيّتنا، ونحترم محدوديّتنا. يجب أن نكون أُمّة الرّحمة لا أُمّة اللّعنة، أُمّة الخلاص وليس تيئيس النّاس من رحمة الله. فهذا الذي يجعل 80% من البشر خارجين عن رحمة الله هو شيطان، والذي يفتح الرّحمة أمام الخلق جميعًا ليشعروا أنّ لهم حصَّة من هذه الرّحمة، هم هؤلاء الذين ذاقوا طعم ونكهة هذه الرّحمة.
أمّا الدكتور يوسف كلّام، فقد افتتَحَ مداخلته بإثارة بعض الأسئلة: ما ميزة الإسلام مقارنة بالأديان الأخرى؟ هل بالتوحيد والإيمان بالله خالق كل شيء، أم بالإيمان بالنبوّة والبعث والجزاء يوم القيامة؟ هل يتميّز عنها بالصيام والصلاة والزّكاة والحج؟ كل هذه المعتقدات والشرائع هي بنصّ القرآن الكريم عرفتها الأديان السماويَّة السابقة، فالتوحيد كان دعوة كل الأنبياء والرسل وبه آمن بعض من تبع هؤلاء الأنبياء والرسل وبه كفر بعضهم، وبالنبوّة وصدق الأنبياء آمن أتباع الرسل والأنبياء، وبالجزاء والعقاب صدّقوا أيضًا، كما أنّ أتباع النبي محمد عليه الصلاة والسلام صدّقوا برسالته وبالتوحيد الذي جاء به وبشرائعه، ولكن بعض قومه كفروا به، كما كفر بعض أقوام الأنبياء السابقين. وكل هؤلاء الأتباع الذين آمنوا بالأنبياء والرسل قبل النبي محمد عليه الصلاة والسلام، بنصّ القرآن كانوا يصلّون ويصومون ويزكّون ويحجّون: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) على لسان عيسى ابن مريم، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).
وأضاف موضِحًا: لا سبيل في نظري، لبيان ما يختلف فيه الإسلام عن غيره من الأديان إلا من خلال القرآن الكريم الذي بيّن ذلك من خلال ما عابه على أتباع الأديان السابقة. قد عاب القرآن على أهل الأديان مسائل كثيرة وردت في كتاب الله عز وجل. لماذا يذكر الله أتباع موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء؟ حتى لا نكون مثلهم ونسقط فيما سقطوا فيه من الدعاوى غير المؤسّسة وغير المبنيَّة في دين الله عز وجل، وهي ما جعلتهم يجيدون عن الطريق الذي رسمه الأنبياء والذي جاء النبي محمد ليعيد الناس إلى الإسلام. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنَّ مَثَلي ومثلَ الأنبياء منْ قَبلي، كَمَثَلِ رجلٍ بنى بَيْتًا، فأحْسَنَهُ وأجْمَلَهُ، إلا مَوْضعَ لَبِنَةٍ من زاوية، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفونَ بِهِ، ويَعْجَبونَ له، ويقُولونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هذه اللَّبِنَة؟!)، قال: (فأنا اللَّبِنَة، وأنا خاتمُ النَّبيِّينَ)؛ بمعنى أنّه جاء عليه الصلاة والسلام متمّمًا لمكارم الأخلاق.
وتساءَل الدكتور كلام: ما هي هذه العيوب التي عابها القرآن على هؤلاء الناس، والتي على المسلم أن لا يقع فيها؟ أذكرُ منها: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) يعيب على هؤلاء اتّهام بعضهم أنّهم ليسوا على شيء، وإذا كان القرآن يحدّثنا عن أهل الكتاب ونفهم منذ لك الحديث أنّ المقصود بهم هم اليهود والنّصارى، فقد أصبحنا نحن اليوم أهل كتاب، فالمسلمون نزل عليهم أيضًا كتاب سماوي، فعليه أن لا يعيد ما فعله هؤلاء الناس. وأيضًا قال هؤلاء بنصّ القرآن الكريم: (وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) إن زعمهم أنّهم من أهل الجنّة دون غيرهم، هذا ما عابه القرآن على هؤلاء الناس. وأيضًا قال عنهم: (وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً) إذن، هؤلاء الناس يعتبرون أنفسهم خلاف باقي البشر وأنّ النّار لن تصيبهم إلا بضعة أيّام. و(مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) هؤلاء النّاس كرهوا أن ينزل فضل الله عليهم، وكان ذلك سببًا لكفرهم برسالة نبيّهم.
وأكد الدكتور كلّام: إنّ هذه الآيات تبيّن أنّ هؤلاء القوم اعتقدوا بعض الأشياء جعلتهم يستبدلون بقومٍ آخرين؛ تستبدل رسائلهم برسالة الإسلام، والمسلم مهدّد بالاستبدال إذا لم يلتزم ما جاء في كتاب الله (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) و (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا). إذن، عندما يحدّثنا الله عزّ وجلّ ويخبرنا أنّنا أفضل أمّة على هذه الأرض(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) أي أنّ أهل الكتاب كانوا مفضّلين كذلك، ثمّ انتزع منهم هذه الأفضليّة، ويخبرنا أنّنا أفضل أمّة ثمّ ينبّهنا حتى لا نسقط فيما سقط فيه هؤلاء النّاس من اعتقادهم بأنّهم مفضّلون بالعرق، مفضّلون لأنّهم مفضّلون، ليس بعملهم.
كما استعرض الدكتور يوسف كلّام، مجموعة من الأمثلة التي وردت في كتاب الله، والتي تفسّر تفسيرات تبقى وجهة نظر، فكثير ممن احتجّوا من المسلمين احتجّوا ببعض النصوص الواردة في التراث الإسلامي، وغيّبوا نصوصًا أخرى، لنفهم أنّه إذا اشتهر فهم معيّن فهو في مقابل أفهام أخرى، ربما لم تشتهر، أو اشتهرت ولكن لأسباب سياسيّة واجتماعيَّة وإيديولوجيَّة وثقافيَّة وغيرها، تركنا هذه الأفهام. ومن بعض الأمثلة التي ذكرها: (لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) . تفسير هذه الآية بالفهم البسيط، أو لو سألنا أي شخص سيفسر: أنّ أهل الكتاب ليسوا سواء. أما ابن كثير، فيفسرها قائلا: “لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم” هذه وجهة نظر، أو فهم من الأفهام السائدة اليوم. ثمّ يقول عن سبب نزول هذه الآية: عن ابن مسعود قال : أخَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة : فقال : ” أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم “. قال : وأنزلت هذه الآيات : ( ليسوا سواء من أهل الكتاب [ أمة قائمة ] ) إلى قوله ( والله عليم بالمتقين ). وهنا استئثار بالذكر، وأنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام يخبر أصحابه أن لا أحد يذكر الله غيركم، وكأنّ الآية تصحّح ما ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام بأن في هذا الكون ناس يذكرون الله عزّ وجلّ، آناء الليل وأطراف النهار، وليست هذه الأمّة فقط. أمّا في الآية (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) يقول ابن كثير: أي : لا يضيع عند الله بل يجزيكم به أوفر الجزاء. ( والله عليم بالمتقين ) أي : لا يخفى عليه عمل عامل ، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا .
أمّا تفسير الطبري: القول في تأويل قوله تعالى: {ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمّةٌ قائمةٌ يتلون آيات اللّه آناء اللّيل وهم يسجدون}. يعني بقوله جلّ ثناؤه: {ليسوا سواءً} ليس فريقا أهل الكتاب، أهل الإيمان منهم والكفر سواءً، يعني بذلك: أنّهم غير متساوين، يقول: ليسوا متعادلين، ولكنّهم متفاوتون في الصّلاح والفساد والخير والشّرّ. وفسَّر معنى السّجود في هذا الموضع اسم الصّلاة لا السّجود؛ لأنّ التّلاوة لا تكون في السّجود ولا في الرّكوع، فكان معنى الكلام عنده: يتلون آيات اللّه آناء اللّيل وهم يصلّون.
وختمَ الدكتور يوسف كلّام مداخلته، قائلا: ما عابه القرآن الكريم على أهل الأديان الأخرى، أنّهم جعلوا أنفسهم حكّامًا على الناس، وجعلوا أنفسهم موكّلين من قبل الله عزّ وجلّ للحكم على معتقدات الناس، والله هو المختصّ بذلك، فقد قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). المؤمن مطالب بالتعامل مع غيره وفق تصرّفات هذا الآخر وليس وفق معتقداته، إذا كان هذا الآخر لا يظلم ولا يعتدي ولا يأمر بالمعروف وينهى عن المعروف نتعامل معه على هذا الأساس، بغض النظر عن كونه مسلمًا أو غير مسلم؛ فالذي يعتقد أشياء لا نعتقدها نحن ولا نؤمن بصحّتها، هو كذلك، يعتقد أنّ ما نعتقده نحن غير صحيح. ثمّ الذي يعمل مع المسلمين ويكافح معهم فأمره إلى الله عزّ وجلّ، إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له.
شهدت الندوة التي حضرها عددٌ من المهتمّين والفاعلين في مجال التنوير الديني، نقاشًا موسّعاً، أجاب فيه الدكتور عامر الحافي والدكتور يوسف والدكتور نبيل قسيس، على أسئلة الحضور وعلّقوا على مداخلاتهم، علمًا أنّ الندوات ستتواصل بشكلٍ دوري، ويمكن للمهتمِّين متابعة منصّاتنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي نعلن من خلالها عن مواعيد الندوات، ونتيح المشاركة فيها.